“الصديق – الوطن – لغة الأم”
صدر عن دار “ميراث للنشر والتوزيع” – 2020
الكاتب:
عبد اللطيف محمد جبارة ، المعروف بـ”ألبرت”، أديب وصحافي كندي – لبناني، من مواليد 17 آب 1947، في قرية جبلية بقاعية لبنانية، متعانقة مع جبل الشيخ شًرقا وجبل لبنان غربًا.
دخل سجن المنفى بسنّ لا تتجاوز الثالثة عشرة، عمل بأشغال شاقة مختلفة بعد بضعة أيام من دخوله إلى كندا.
تخرّج الطفل عبد اللطيف في مدرسة الحياة الابتدائية والثانوية والجامعية. الحياة القاسية والشاقة منحته ثلاث شهادات ذهنية وهو على أطراف السادسة عشرة من عمره. في ذلك العمر أيضا ألّف أول مجموعة شعرية وصدرت في مدينة أوتاوا – كندا. له خمس عشرة مجموعة أدبية وشعرية ومئات المقالات السياسية والإنسانية والاجتماعية. عمل صحافيًا لمدة خمسة عقود، إلى جانب الأعمال والوظائف الإدارية المختلفة.
الكتاب:
“الصديق – الوطن – لغة الأم”
إنها رحلة هادئة ممتعة وشائقة، تلك التي تبحر فيها عبر أشعار جبارة، لا لتمارس فيها مغامرات أدبية تعوّدنا أن نتعرّض لها في دواويننا التقليدية، ولكن لتسرح على مزاجك في حدائق مزهرة وردية تقطف منها من أريج الجنّة كما من آيات الله البيّنات، التي ترافق رحلتك من بدايتها وحتى آخر محطة من مفرداتها المزركشة بالفراش ورائحة اللوز والصنوبر والليمون.
“فراشَةُ اللَّوْزِ
تَطِيرُ في شاسِعِ الفَضاءِ
لِفَتَراتٍ طَويلَةٍ، سَنَواتٍ لا تُحْصى
وَتَعُودُ إِلى شَجَرَةِ اللَّوْزِ شَجَرَةٌ خُصَّتْ لَها
كَفِلِسْطِينَ خُصَّتْ مُنْذُ وِلادَتِها إِلى عَرَبِها.
مِنْ شِدَّةِ حُبِّها إِلَيَّ عَشِقْتُها
وَعَشِقْتُ مَنْ حَوْلَها.
***
العِشْقُ في الصِغَرِ يُدْخِلُكَ قفَصًا
لا بابَ لَهُ وَلا مِفْتاحَ؛
تَرَكْتُ بَلَدي الأُمَّ وَأَنا طِفْلٌ؛
أَتَيْتُ إِلى بَلَدٍ لا فِيها عِشْقٌ وَلا حُبُّ؛
فِيها مالٌ وَخَمْرٌ وَكَثِيرٌ مِنَ القَهْرِ.“
***
أفكاره ومشاعره وخيالاته، تزخر بكل عناصر التوليفة الشعرية، من صور زاهية وعواطف جيّاشة وأفكار متجدّدة، تنبع جميعها من معجم لغوي بسيط غاية البساطة، وتكوّن من خلال تآلف المفردات والألفاظ وتعانقها وتكاملها غنائية شعرية قائمة بذاتها، قد لا تشبه الغنائيات والايقاعات التقليدية، لكنها بحدّ ذاتها تمثل تجديدًا فريدًا من نوعه.
ربما كان يمثل، في جانب من جوانبه، التجديد الذي تعرّض له القالب الشعري العربي حين دخل البيئة الجديدة في الأندلس واندمج بتفاصيل الحياة ونوعية الجمالات والأفكار التي صادفته في أجواء حضارية تختلف اختلافًا كليًا عن المناخ والأجواء التي نبت وترعرع بها الشعر العربي “الفراهيدي.”
جبارة عاش مرارة الحياة الغربية الضائعة. “ كَمْ مِنْ مَرَّةٍ زَوابِعُ البِحارِ ابْتَلَعَتْني في دَوامَتِها؟ تَنَفَّسْتُ مِنْ هَوَائِها وَأَكَلْتُ مِنْ لَحْمِها وَنَباتِها.“
وأنت تعبر صفحات الديوان، مأخوذًا بجزالة التراكيب والألفاظ، ومتانة الصياغة، وجمال اللوحات الشعرية، وحداثة الأفكار المولدة، لا يسعك إلا أن تستعيد تجربة أجدادنا في الغرب الأوروبي التي تماثل إلى حد بعيد تجربة الشاعر التي خاضها طوال خمسين عامًا في غربته في الغرب الأميركي.
“فِراقُ الأُمِّ الأَبْجَدِيَّةِ
طالَ خَمْسينَ عامًا
وَبِلَحْظَةِ بَصَرٍ رَجَعَتْ إِليَّ
كَأَنَّ الزَّمَنَ ما كانْ.
***
يا أَبَتاهْ، ذاكَ شُعورٌ عَشَّشَ في ذاتي
بِدِفْءٍ حارِقٍ شَبِيهٍ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ
إِنْ كُنْتَ بِقُرْبِها_
جَمْرٌ أَلْهَبَ قَلْبي، أَشْعَلَهُ وَأَطْفَأَهُ.“
***
إن اقتحام الكاتب جبارة ميدان تناول مسائل حميمية وهامة وأصيلة في حياة الانسانية بعامة، مثل موضوع الصداقة أو الوطن أو اللغة الأم، والتصدي لهذا الموضوع، بأسلوب فني رفيع، وصياغات يختلط فيها الفكري بالوجداني، والعاطفي بالعقلي، والعلمي بالخيالي يعتبر بحق جرأة تستحق الاعجاب.
لا سيما وأن الكاتب جبارة، إنما كان يعبّر من خلال هذه الثلاثية الموضوعية، عن أغنى وأغلى وأعز ما يختزنه المرء في فؤاده، وما يشكل هاجساً دائمًا وحيويًا في عقله ونفسه. بينما هو يتأهب لركوب قافلة الهجرة ملوّحًا بيديه إلى أكثر الناس قربًا إلى قلبه وأكثر الأشياء التصاقًا بفؤاده وحناياه، وهم الأهل والأصدقاء وأرض الوطن ولغته الأم التي فطر عليها، وهو يدرك تمامًا أن رحلته التي بدأها إلى ما وراء البحار قد تفقده أجمل وأحلى ما تحمله هذه الثلاثية من معان وقيم.
“تَنَقَّلْتُ مِنْ شَجَرَةٍ إِلى شَجَرَةٍ؛
أَمْسَكْتُ بِحِبالِ الشَّمْسِ
وَمَشَيْتُ مَعَها مِنْ غُدُوٍّ إِلى عَشِيٍّ.”
***
“هَلْ أَنا في حُلُمٍ في حَدِيقَةٍ مِنْ رُمّانٍ
مِنْ حَوْلِها أَبي زَرَعَ شَجَرًا مِنْ تينٍ وَزَيْتونٍ
مِنْ لَيْمونٍ وَتُفّاحٍ.”
***