منوّعات

ثقافة الطهي اللبنانية تحول الطبق اللبناني إلى رمز للتميز والإبداع والتفوق في المشهد الأوروبي  

كتب مازن مجوز

في زوايا مدن أوروبية كبرى، من باريس إلى برلين، ومن بروكسل إلى مدريد، لا يكاد يخلو زقاق أو شارع رئيسي من مطعم يحمل بصمة لبنانية: تبولة، حمص، مشاوي، وكرم ضيافة لا يُقاوَم. مشهدٌ أصبح مألوفًا لدرجة أن الجاليات اللبنانية باتت تُوصف بأنها الأكثر حضورًا في قطاع المطاعم بين الجاليات العربية في القارة العجوز.

لقد أصبح الطبق اللبناني سفيرا عالميا بامتياز، فالمطبخ اللبناني، المعروف بتنوّعه ومذاقه الصحي، لم يعد مجرّد طعام يُقدَّم، بل أصبح بوابة عبور إلى قلوب الشعوب وثقافاتهم. هذا التفوق لا يُختصر بنكهات التبولة والحمص والمشاوي، بل يرتبط أيضًا بروح المبادرة وريادة الأعمال التي تميّز اللبنانيين في بلاد الاغتراب. العمل العائلي، السرعة في التكيّف، والجاذبية البصرية للمطاعم اللبنانية، ساهمت جميعها في رسم هذا المشهد الناجح. وما السرّ خلف هذا الانتشار اللافت؟ وهل تحوّلت ثقافة الطهي اللبنانية إلى أداة للاندماج، وفرصة اقتصادية، وربما شكل من أشكال القوة الناعمة الجديدية التي تعكس صورة لبنان في الخارج ؟

يؤكد الشيف أنطوان الحاج أن الطعام فن، ومعرفة الطهي فن أيضاً. لهذا السبب كانت المدرسة الفندقية في لبنان الوحيدة بين الدول العربية التي خرّجت أجيالاً من الطهاة، والماتر دوتيل (رئيس الطهاة)، وطهاة المعجنات، ثم إدارة الفنادق والمطاعم.

والحاج كان من مؤسسي المدرسة الفندقية في العراق في أعوام  : 1975، 1976، و1977.  وخرّج أكثر من 32,000 طالب، ومعهم الكثير من الطهاة أيضاً. هؤلاء الطلاب أصبحوا سفراء، والعديد منهم منتشرون اليوم في أنحاء العالم، بعضهم فتح مطاعم، وبعضهم هاجر مع عائلته بسبب عدد من الحروب التي مرت على لبنان.

ووفق الحاج كل هذا جعل الجالية اللبنانية في الخارج، المتعلمة والماهرة، تفتح هذه المطاعم أولاً. والآن، هناك الكثير من المطاعم المشهورة في البلدان الأوروبية، وحتى الأجانب في البلدان التي يعيشون فيها يتذوقون الفلافل، شاورما اللحمة، شاورما الدجاج، الصفيحة، الشوربات، المناقيش، ورق العنب، المخللات، التبولة، الفتوش، الباذنجان المخلل، والحمص بالطحينة، والاطباق القائمة على اللحوم والدجاج وبعض أنواع الطيور والأسماك.

ويؤكد الحاج أن هذا ما نفتخر به: “صناعة الفنادق التي منحت لبنان المراتب الأولى في جودة الطعام، النظافة، والتسويق، وهذا جعل أي شخص غير لبناني أو عربي يحب هذه الأطعمة التي تُحضّر في الخارج”.

ويتابع ” لذلك، بجانب الجالية اللبنانية والعربية الكبيرة ، يزور العديد من الأجانب هذه المطاعم ليكونوا مع العرب أو اللبنانيين ويتذوقوا هذا الطعام، ويبدأون بإحضار أصدقائهم للتعرف على المطبخ اللبناني الخاص”، لافتا  إلى أنه ولهذا السبب أصبحت هذه المطاعم مشهورة،  فهي فتحت على أيدي أبناء الجالية اللبنانية ، ولكن بجانب الطعام اللذيذ وأسعاره المناسبة مقارنة بأنواع طعام أخرى في بلدانهم، وجد الناس أن الطعام صحي ومغذي، فلاقى قبولاً كبيراً،  ما سرع في شهرة المطاعم اللبنانية في أوروبا، أمريكا، الشرق الأوسط، جنوب آسيا، والهند.

ويشدد الحاج على أن النجاح والشهرة عاملان يعودان  إلى الطعام الجيد والأشخاص الذين يعدونه، فهم يتميزون  بعلاقة جيدة بالطعام. ولهذا تنجح الأمور عندما يتقن الشخص عمله بإتقان وحرفية ممتازة.

وفي لغة الأرقام فقد احتل المطبخ اللبناني المرتبة الثانية عربيا وال 26 عالميا وفق تصنيف “تيست أطلس أوردز 2025  ” ، وقد جاءت المطابخ العربية على الشكل التالي :

  1. المطبخ الجزائري (21 عالميا).

2.المطبخ اللبناني (26 عالميا).

3.المطبخ التونسي (30 عالميا).

4.المطبخ المغربي (38 عالميا).

5.المطبخ المصري (40 عالميا).

6.المطبخ السوري (42 عالميا).

7.المطبخ الفلسطيني (46 عالميا).

وفي تقرير صادر عن    DATA INTELO  –  وهي  شركة متخصصة في أبحاث السوق وتحليل البيانات،  تعتمد تقاريرها على بيانات دقيقة وتحليلات معمقة – حمل عنوان ” توقعات سوق المطاعم اللبنانية ” يظهر أن حجم سوق المطاعم اللبنانية حول العالم وصل إلى 6.2 مليار دولار عام 2024، ومن المتوقع أن ينمو بمعدل سنوي مركب 7.4% بين 2025 و2033 ليصل إلى حوالي 11.7 مليار دولار بحلول 2033.

وتطرق التقرير  إلى أهم  العوامل التي تساهم في ارتفاع هذا النمو :

– زيادة الطلب العالمي على تجارب طعام متنوعة وصحية وأصيلة.

– انتشار الجاليات اللبنانية في مختلف أنحاء العالم.

– تزايد شهرة النظام الغذائي المتوسطي الذي يعتمد على مكونات صحية مثل الخضروات الطازجة، البروتينات قليلة الدسم، زيت الزيتون، والتوابل العطرية.

– ارتفاع عدد المسافرين الدوليين وتعرفهم على الثقافة والطبخ اللبناني.

– تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والمؤثرين في مجال الطعام على نشر المطبخ اللبناني.

ويخلص التقرير إلى أن المطاعم اللبنانية تزدهر في المناطق التي تنتشر فيها جاليات لبنانية كبيرة، وتتوسع أيضًا في أسواق جديدة يبحث فيها المستهلكون عن نكهات وتجارب طعام جديدة .

وفي أحدث البيانات والاحصاءات يتبين أن :

– في ألمانيا، بلغ عدد المطاعم اللبنانية 316 مطعماً حتى تموز 2025.

– في بلجيكا، يوجد حوالي 186 مطعماً لبنانياً حتى يوليو 2025.

– تقرير لشركة   DataIntelo يشير إلى أن السوق الأوروبي للمطاعم اللبنانية بلغت قيمته حوالي 1.2 مليار دولار في 2024.

– نفس التقرير يشير إلى أن المطاعم اللبنانية المستقلة (غالبًا عائلية) شكّلت حوالي 65% من إجمالي المطاعم اللبنانية عالمياً في 2024، ما يؤكد الطابع العائلي للمشاريع.

 

 

ومن  هنا  تتبلور الأسباب الكامنة وراء هذا التفوق من  ” ثقافة الطهي العريقة” حيث يعد المطبخ اللبناني من أكثر المطابخ تنوعًا وصحةً، ويجمع بين النكهات المتوسطية والمكونات الطازجة، ما يجعله محبوبًا لدى الأوروبيين،  بالإضافة إلى  ” الاغتراب التاريخي” فمعروف أن الهجرة اللبنانية ليست جديدة، بل تعود إلى عقود، ما أعطى اللبنانيين وقتًا لتثبيت حضورهم الاقتصادي، خاصة في قطاعات مثل المطاعم والخدمات. فضلا عن ميزة ” المرونة والقدرة على التكيّف ” حيث أن اللبناني يتميز بقدرته على التكيّف في البيئات المختلفة، واستثمار الفرص بسرعة، من دون أن ننسى ” الخبرة التجارية وروح المبادرة” حيث تاريخيًا، يميل اللبناني إلى العمل الحر بدل الوظيفة، وله باع طويل في التجارة، مما يعزز روح ريادة الأعمال لديه.

وفي الختام  يثبت اللبنانيون مرة جديدة بأن الطهي بوابة للعبور إلى قلوب الشعوب، فالطعام لغة عالمية تتجاوز الحواجز الثقافية واللغوية. فمن خلال المطاعم، يُعرّف اللبنانيون الآخرين بثقافتهم، ويكسبون احترام وتقدير المجتمعات المضيفة؛ فمطعم لبناني ناجح يمكن أن يصبح سفيرًا ثقافيًا غير رسمي للبنان.

المطاعم ليست فقط وسيلة للعيش بل أصبحت “وسيلة للتأثير الثقافي والنجاح الاقتصادي”  للجاليات اللبنانية في أوروبا، بفضل مزيج من المهارة، الثقافة، وروح المبادرة.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى