الاب شربل جعجع

عندي ما أقوله لكم
على عادة كل يوم، كان المعلّم يطلب منا التوجه الى ناحية. ويومها طلب منا الانتقال مِنَ الْجَلِيلِ فجَئنا إِلَى تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ في عَبْرِ الأُرْدُنِّ.
هناك التقينا جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ ومنهم الْفَرِّيسِيُّونَ، حيث قال لنا: هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ”.
سمعنا هذا الكلام، ولكن لم يفهم أحد منا ما قاله المعلّم فقد كنا مأخوذين بفكرة الصعود إلى أورشليم، وبكل شكليات العيد والزينة، والعادات، ولم نفهم عمق ما قاله لنا.
وما إن وصلنا إلى مدخل المدينة الذي كان يعج بالناس الصاعدين الى العيد، حتى تهافت الجميع نحو المعلّم، فالكل يريد الوصول اليه وشعرنا حينها بفرح كبير، وسيطر علينا شعور من البهجة، والفخر والأهمية لمجرّد أننا برفقة المعلّم.
صراخ، أناشيد، هتافات، زغاريد، وأطفال تحمل سعف النخل، وأناس تطرح ثيابها أمام المعلّم.
في وسط هذه الحالة، كانت عيون البعض تنظر الينا نظرة غضب وتوعّد. أيعقل كيف فاتنا ان معلمنا هو إبن الله ومخلّصنا؟ أيعقل أننا مأخوذين بظاهر الأشياء؟
أكملنا المسيرة وسط كل هذه الحفاوة، ودخلنا المدينة وكان العيد في كل مكان، وكان كثيرون من اليونانيين، وغيرهم يسعون لرؤية المعلّم، اما نحن فكنا منهمكين، مأخوذين بشعور العظمة لكوننا بصحبة المعلّم وتلاميذه.
خلف هذه الحالة المليئة بالرهجة، كان السؤال: ما سرّ صمت المعلّم؟ ولماذا لم يشعر يسوع بنفس الشعور الذي نشعر به نحن؟ لماذا لم يكن المعلّم مأخوذاً بكل الحفاوة والاهتمام من قِبل الجميع؟
لماذا لم يتفاعل مع الواقع كما فعلنا نحن؟
وما سرّ هذه النظرة التي كانت على وجهه؟ كان يحدّق بحب ويجول بنظره في كل واحد منا.
أتراه يعلم! أكان يعلم أن خلف هذه الحفاوة، هناك صليب وألم؟ لماذا لم نستطع فهم نظرته؟ لماذا لم نتمكن من الشعور به؟ كنا مأخوذين بالرهجه والبهجة، والعيد والأكل والعادات.
مرت أولى أيام العيد، وفي اليوم الخامس، طلب يسوع منا أن نهيء العشاء.
كل واحد منا أخذ يهتم بالقسم المعطى له وعند المساء جلسنا حول المعلم.
خيّم على العشاء شعور غريب: شعور الحب العميق ممزوج بالتساؤل.
غسل أرجلنا، وقبّلَنَا. كسر الخبز وأعطانا، قائلاً: “خذوا كلو هذا جسدي، والكأس أيضاً شربنا منها وقال هذه الكأس هي كأس دمي”، لم نفهم شيئا من ذلك، فكل واحد منا كان يفكر بالنصيب الذي ينتظره. لم نفهم كلماته، ولا معانيها، لم ندرك عظمة الحب الذي يتجلى بيننا.
لم يكن أحد منا يقدر على الدخول إلى عمق الحقيقة لكي يفهم ماذا يفعل المعلم.
كل واحد منا كان يفهم الأمور على هواه، ولكن لم يستطع أحد من الدخول مع المعلّم في سرّ الحب الذي يتجلى ببذله لذاته.
كنا نعيش ظاهر الأمور، والأشياء. لم ندرك أن يسوع يعطينا ذاته، وأنه أوصانا أننا كل مرّة نجتمع حول جسده نعيش سرّ الخلاص .
أسأل ذاتي، كم أنا عاجز عن فهم عمق الحب، حب الله الذي يحيي كل من يأخذه.
لماذا كنا مأخوذين بظاهر الاشياء؟ وجلساتنا معه كانت تدور حول أنفسنا وليس حول يسوع نفسه؟
الآن أدركت ان المعلّم (يسوع الناصري)، هو الحب المتجسّد، الحب الذي ينضُج ببذله لذاته.
لماذا لم استطع أن أؤمن ان يسوع ليس مجرّد شخص عادي؟ لماذا كانت علاقتي به علاقة سطحية؟ قائمة على ماذا انا أريد، بغض النظر عما يريده هو لي.
وبعد العشاء خيّم جو من التشنّج عندما قال المعلّم أن واحداً منا يسلمه!!!
نظرنا لبعضنا البعض، وراح كل واحد منا يسأل نفسه من عساه يُسلَم المعلم؟
من الذي سيقضي على هذه الحالة؟
من عساه يهدم أمانينا؟ وانا في حيرة، وإذ بيهوذا يخرج!!! اجتاحت الصدمة وجوه الجميع، ورحت أسأل نفسي:
لو كنت مكان يهوذا: ما كان يمكن أن يكون الدافع لأسلّم المعلّم؟
ما الذي قد يدفع انسان لخيانة الله؟ لم يفعل المعلّم شيئا يستحق الخيانة، أيعقل أن الجهل وعدم إختبار الحب، يدفع الانسان لأي عمل؟
اليوم أسأل ذاتي كيف لإنسان عاش الحب، الحب الذي يكمّل، الحب الذي ينمّي، الحب الذي يجعلنا شركاء الله في مجده والمتجلّي بغسل أرجلنا ومنحنا جسده ودمه، أن يخون عهد الله.
وأنا في حيرة من أمري قال لنا المعلّم : أنا ذاهب لأصلي فخرجنا كلنا وراءه الى بستان الزيتون وهناك ابتعد عنا قليلاً ونحن بقينا في تلك الحيرة .
في منتصف الليل سمعنا أقدام الجنود والأضواء متجهة نحونا، ولشدّة خوفنا ، قام أخونا بطرس بضرب الجندي الذي يعتقل المعلّم بعدما طبع يهوذا قبلة على خدّه . وأي قبلة هذه؟؟؟
إن أخطر ما فعله يهوذا، ليس تسليم المعلّم وحسب، إنما إستعمل أهم تعابير الحب ليعبّر عن الخيانة.
أيعقل هذا؟ كيف يمكن للإنسان أن يشوّه الحقيقة؟ أيعقل أن الجهل يدفع كل واحد منا ليسلم الله باسم الحرية وباسم الحب والغيرة على المصلحة العامة؟
إن رؤية المعلّم في أيدي الجنود كانت الضربة القاضية لنا، تشتتنا كلنا، كل واحد مال الى طريقه، ضللنا كالغنم أما يسوع بصمت وتأمل سار مع الجنود الذين أعمى الحقد قلوبهم.
ها هو المعلّم يُسلَم للكتبة ورؤساء المجمع.
لماذا؟ ولأي جرمٍ اقترفه؟ ألأنه أقام الموتى؟ وشفى المرضى؟ وأبرأ البرص، وأعاد النظر للعميان؟ ….
ليس لأجل هذا كله، إعتقلوه لأنه قال أنا إبن الله، لأنه شهد عليهم أنهم أنبياء كذبة. لأنه قال الحقيقة التي تحرر.
نعم! إن تكلفة قول الحقيقة هو الموت،
تكلفة أن نعلم أن الله هو ألاب الراعي وليس الحاكم الجلاد،
تكلفة أن نكون محبوبين ومخلّصين،
لأن رؤسائنا يريدوننا كالغنم ولا يريدوننا أن ندرك أن الله حاضر وسط شعبه.
في اليوم التالي تجمّع الناس في دار بيلاطس وكانوا يهتفون إصلبه إصلبه!
إن صراخ المطالبين بالصلب كان مدوّي، وصداه يشق الجدران. ولكن لماذا؟ لماذا تريدون صلبه؟ ماذا فعل؟
في تلك اللحظة، سألت نفسي:
هل أنا مشارك في هذا القرار؟
هل كان بإمكاني فعل أي شيء يحول دون حدوث هذا؟
لماذا لا يستطع الآخرون أن يروا في المعلّم هذا الحب والمعنى الذي رأيته أنا؟
سألت ذاتي: هل يعقل أن يكون ثمن الحب هو الموت. وفي اللحظة عينها، تذكرت ما قاله لنا المعلّم عن حبة القمح التي يجب أن تموت لتعطي ثمراً.
أيعقل أن الاخرين من أتباع المعلّم ينظرون للصلب كمجرّد عمل قاسٍ؟
هل يُعقل أن ينتصر الجهل والحقد على الحب المتجلّي بطاعة المعلّم لإرادة أبيه والموت على الصليب فداءً لنا؟
كيف لي أن أقول للجميع أن الحب أقوى من السياط والصراخ؟
كيف لي أن أقول للناظرين شدة الألم أن الحب أقوى من الموت؟
كيف أعلن للعالم ولرؤسائنا ان المسيح الذي لطالما بشّرونا به هو نفسه الذي صلبوه.
كيف يمكنني أن أقنع الجميع أن حياتنا كلّفت موت المعلّم على الصليب؟
كيف وكيف وكيف…
ولكن كل شيء تم.
وساد الخوف والذعر لدى الصالبين والرؤساء أكثر منا نحن التلاميذ.
لم يُطفيء الصلب نار حقدهم، ولم يغسل دم الحمل قلوبهم وضمائرهم، فهمّهم ذاتهم ومجدهم عارهم.
وبقينا نسأل: كيف تم كل ذلك ونحن كنا نظن أنه هو الملك الآتي ليخلّص شعبه من خطاياهم؟
الجميع يتهامس، لا أحد يجرؤ على الكلام في شأن ما حدث،
ما هذا الأمر؟
هل هو خوف من الآخرين؟
هل هو خجل من الناس؟
هل هو قلة إيمان؟
لماذا هذا الصمت؟ لماذا لم يكن هناك من ينادي بحقيقة المعلّم؟ لماذا لم يوجد من يدافع عنه؟ لماذا نحن خائفون؟ …
صباح يوم الأحد، ذهبت النسوة الى القبر، وإذ بهنَّ يقلن لنا أنه قام!!!
قام؟ كيف يكون ذلك؟
وذهبنا فشاهدنا الحجر قد دحرج والقبر فارغ.
في تلك اللحظة، توقف الوقت وتتالت الأحداث وبدأنا نتذكر ما قاله لنا، وأنه سيسلم إلى الموت وفي اليوم الثالث يقوم.
نعم إنه قام!
قام وأقامنا معه من عبودية الحرف.
قام وأقامنا معه من موت الزمان إلى الحياة الابدية.
قام وأقامنا معه من الخوف إلى الرجاء.
قيامته أعادت لنا كرامتنا، أعادت لنا فخرنا، أعادت إلينا هويتنا :ابناء الله.
قيامته حوّلت خوفنا جرأة وضعفنا قوّة.
ليت العالم بأسره يشعر عظمة هذا الحب الكبير الذي أزهر وأعطى الخلاص.
معلمنا قام!!! أما معلمو الشريعة فقد باتوا خائفين.
هذا هو معلمنا!
قام من الموت وأقامنا معه، وبقيامته أصبح كل واحد منا مسيح قائم.
لم تعد القيامة محصورة بالمعلّم، فكل مؤمن بالقيامة هو مسيح آخر، هو ذبيحة حيّة يحيي الذين يلتقونه.
معلمنا قام، مسيحنا قام ! حقاً قام وحياتنا اليومية شهادة على ذلك.