منوّعات

في البلد أزمة

بقلم الباحث المصرفي  سليم مهنا

بينما يحتدم التنافس بين دول العالم على رفع مستوى الخدمات العامة وزيادة رفاهية مجتمعاتها، والاستثمار في التعليم والتكنولوجيا، وتأمين فرص العمل، وتفعيل أنظمة الحماية الاجتماعية، ينشغل السياسيون اللبنانيون في المناكفات والمهاترات غير مبالين بالوضع المأساوي الذي حل بالبلاد، ولا بصرخات الوجع التي وصلت إلى أصقاع الأرض قبل أن تصل إلى ضمائرهم النائمة.

مئة عام ونيف مرت على نشأة الكيان اللبناني، عاشها شعبه متخبطا بين أزمات وثورات وحروب، لكنها لم تخل من أيام عز وازدهار شكلت علامة فارقة في تاريخه ولا تزال ماثلة في وجدان كل من عاصر تلك الفترة وتنعم بخيراتها، وتبقى خير دليل على إمكانية نهوض هذا البلد وانتقاله نحو مستقبل يعيد الأمل إلى شعبه الذي حُرم من أبسط مقومات الحياة والسعادة.

فعلى الرغم من الإنتقادات الهائلة التي تكال لهذا النظام التحاصصي الطائفي والنتائج السلبية المدمرة التي أنتجها، من ترد للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم الأزمة المعيشية الى درجة غير مسبوقة، وارتفاع مستويات البطالة والهجرة، وتعميق الإنقسامات الداخلية بين أبناء الوطن الواحد، فإنه من الملفت للانتباه انه وفي ظل هذا النظام نفسه، تمكن لبنان خلال العقدين السادس والسابع من القرن الماضي من أن يصبح مركزا حيويا للمال والتجارة والخدمات، وقُبلة للاستثمار والسياحة، واستطاع أن يكوِّن احتياطيا هاما من الذهب، وبلغت الليرة مستوى متقدما من الثقة بحيث كانت تنافس أقوى العملات الأجنبية، وجرى اعتمادها كعملة احتياط أساسية لدى العديد من المصارف المركزية حول العالم.

أسبابٌ عديدة تقف خلف إنجازات تلك الحقبة، لكن أبرزها كان وجود قامات وطنية ومسؤولين سياسيين استطاعوا برغم الانقسامات السياسية أن يجتمعوا على كلمة سواء لصالح وطنهم، فكانوا بحق رجال دولة لا رجال دول.

في البلد أزمة لا يمكن إنكار العوامل الخارجية التي أسهمت في قيامها واشتداد وطأتها، كما لا يمكن تجاهل أثر الصراعات الإقليمية والدولية الدائرة حولنا ومدى تداخلها مع الصراعات الداخلية وتأثيرها عليها.

نعم إن في البلد أزمة تتمثل بتعدد الولاءات وتلاشي الشعور الوطني على حساب مصالح الجماعات الطائفية، لكن المستغرب والمستهجن أن تنزلق الأوضاع الى هذه الدرجة من السوء مع غياب شبه تام لأدنى محاولات العلاج، فمن غير المعقول والمقبول أن تصبح الدولة عاجزة عن اصدار الطوابع المالية وهي المحتاجة لكل قرش وفي حالة عجز مالي خطير، ومن غير المقبول أن تعمل أجهزة المعلوماتية لساعتين يوميا في وزارة المالية التي تتولى جباية الضرائب والرسوم من المكلفين، ومن غير المنطقي ان تكون معظم مؤسسات الدولة وإداراتها مقفلة او معطلة بسبب نقص في التجهيزات اللوجستية البسيطة، ومن غير المعقول أن يتطلب الحصول على جواز سفر انتظار سنة كاملة في حين كان يتطلب اصداره ثلاثة أيام قبل الأزمة، والقائمة تطول وتطول وتؤكد بما لا يقبل الشك أن هناك تراخيا ربما يكون مقصودا من قبل المسؤولين في الدولة لكي تصل الأوضاع العامة الى هذه الدرجة من التردي بعد أن أغرقوا البلد بالديون وعطلوا القضاء وحموا كل أشكال الفساد وصولا الى ضرب القطاع المصرفي وإنهاكه.

في البلد أزمة هجرة الكفاءات والنخب العلمية وهروب الاستثمارات والعلامات التجارية وغياب شبه تام لأي شكل من أشكال التخطيط للمستقبل.

في البلد أزمة ثقة عميقة بين المواطن والمسؤول، وانعدام أفق يصل إلى حدود اليأس.

في البلد أزمة شعب مخدوع ما زال يتوقع الخير من تلك الطبقة السياسية ويجدد ثقته بها.

في البلد أزمة لكنها ليست أزمة مالية واقتصادية فحسب، هي أزمة أخلاق ورجال، والوطن ينقصه رجال يعملون بأخلاق غير هذه.

أيها السياسيون اطمئنوا إن الجحيم يتسع للجميع، فالأمر لا يستحق كل هذه المنافسة على من سيكون الأسوأ فيكم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى