ربط اقتصاد بريطانيا بالاتحاد الأوروبي.. ما موقف حزب العمال؟
عادة ما يفضل حزب العمال البريطاني تجنب مناقشة مسألة ربط الاقتصاد البريطاني بالاتحاد الأوروبي؛ خشية أن يشكل ذلك قلقاً بالنسبة للناخبين.. ولكن إذا فاز الحزب في الانتخابات بُعيد أيام، فلن يكون أمامه الكثير من الخيارات، بحسب تقرير لصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية.
وفق التقرير، فغالباً ما يعني التعامل مع الخلاف (بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي) الاستجابة لمبادرات بروكسل أكثر من اتخاذ خيارات حرة كدولة ذات سيادة.
وما يزيد الأمور تعقيداً أن المملكة المتحدة قد تواجه ضغوطاً متزايدة من الولايات المتحدة التي قد تسحبها بعيداً عن التكتل، وفق التقرير، الذي سلط الضوء على قوة الجذب الاقتصادي للاتحاد الأوروبي ستؤثر في التحالف الاستراتيجي للمملكة المتحدة مع واشنطن.
منذ أن غادرت المملكة المتحدة السوق الموحدة والاتحاد الجمركي في العام 2021، أصيب المتشددون من مؤيدي الخروج بخيبة أمل؛ بسبب غياب “عام الصفر التنظيمي”، وهذا يعكس قبضتهم المهتزة على الواقع.
و”عام الصفر” هو مصطلح يستخدم في السياقات السياسية والتاريخية للإشارة إلى بداية جديدة أو نقطة انطلاق جديدة يتم فيها إعادة بناء المجتمع أو النظام من البداية، وعادة بعد حدوث تغييرات جذرية أو ثورات.. ويتم تبني هذا المفهوم من قبل الحكومات أو الحركات التي تسعى إلى محو الماضي وإعادة تأسيس النظام الاجتماعي والسياسي وفقاً لرؤيتهم.
القوة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي
ويشير التقرير إلى أن القوة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، الذي يتجاوز ناتجه المحلي الإجمالي أكثر من 6 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة “أثقلت كاهل قطاعي الصناعة والزراعة في بريطانيا بشكل خاص”، كما طغت النفعية الاقتصادية على الرغبة الأيديولوجية في الاختلاف والتباعد بين الطرفين.
ووفق التقرير، فإن المؤيدين المتشددين للخروج البريطاني غالبا ما يختارون الانحياز إلى الاتحاد الأوروبي عندما يواجهون حقائق غير مريحة (تتعلق بالضغوطات الاقتصادية على أرض الواقع)
على سبيل المثال، فإن وزيرة الأعمال والتجارة، كيمي بادينوتش، أثارت غضب زملائها من مؤيدي الخروج البريطاني العام الماضي عندما رفضت إلغاء مساحات كبيرة من قانون الاتحاد الأوروبي. ولو ما قامت به لكان يمكن أن يحدث اضطراب خطير في أجزاء كبيرة من الاقتصاد.
ووفق تقرير الصحيفة، فإنه في كل قضية، سرعان ما تتجمد الخطابات الحماسية حول الاستقلال عند ملامستها للمنطق الاقتصادي البارد. فقد أحدثت المملكة المتحدة ضجة كبيرة من خلال إنشاء نظامها الخاص فيما يتصل بأدوات الدفاع التجاري (التعريفات الجمركية الطارئة المستخدمة ضد الواردات المتزايدة أو ذات الأسعار غير العادلة). كما نأت الحكومة بنفسها عن الاتحاد الأوروبي من خلال تسمية الوكالة الجديدة بهيئة التدابير التجارية، باستخدام المصطلح الأميركي لـ TDI
لكن في الواقع، فشلت محاولة المملكة المتحدة لاتخاذ مسار مختلف جذرياً عن الاتحاد الأوروبي عند العقبة الأولى في عام 2021 عندما أوصت هيئة تنظيم التجارة برفع بعض التعريفات الجمركية “الوقائية” على الصلب التي ورثتها من الاتحاد الأوروبي.
وسارع الوزراء إلى التشريع لإلغاء هيئة تنظيم التجارة. وفي هذا الأسبوع مددت الحكومة التعريفات الجمركية مرة أخرى لمدة عامين في اليوم التالي لقيام الاتحاد الأوروبي بالمثل.
صناعة السيارات.. أمثلة أخرى
كما كانت صناعة السيارات البريطانية تضغط على المملكة المتحدة لمضاهاة التعريفات الجمركية المناهضة للدعم التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على السيارات الكهربائية الصينية.
ويضرب التقرير مثالاً آخر، يتمثل في آلية تعديل حدود الكربون التابعة للاتحاد الأوروبي، والتي تهدف إلى ضمان أن تعكس الواردات نفس سعر الكربون الذي تحدده بروكسل لشركاتها الخاصة.
وأصرت كيمي بادينوك (وزيرة الأعمال والطاقة والاستراتيجية الصناعية بالمملكة المتحدة) على أن المملكة المتحدة ستكون لديها آلية تعديل حدود الكربون الخاصة بها المصممة لتعكس احتياجات المملكة المتحدة.
لكن -بحسب التقرير- فإن الفشل في الانحياز إلى آلية الاتحاد الأوروبي أو الانضمام إليها من شأنه أن يفرض تعريفات الكربون على صادرات بريطانيا من الكهرباء إلى الاتحاد الأوروبي ويهدد صناعة الصلب المحاصرة بالفعل.
ولم يأخذ سوى عدد قليل من المراقبين المطلعين داخل الحكومة أو خارجها إعلانات الاستقلال التي قدمتها بادينوك على محمل الجد. وذكرت صحيفة فاينانشال تايمز أن حزب العمال يخطط بحكمة للانضمام إلى آلية تعديل حدود الكربون التابعة للاتحاد الأوروبي أو الانحياز إليها.
وهناك الكثير من الخيارات الأخرى المماثلة التي تلوح في الأفق. وإذا ما فشلت بريطانيا في تنسيق لوائحها المتعلقة بالواردات من المناطق التي أُزيلت منها الغابات أخيراً مع نسخة بروكسل، فقد تواجه شركاتها قيوداً على التصدير إلى الاتحاد الأوروبي، وهو تهديد يواجه الشركات الأمريكية بالفعل.
ولكن هذا لا يعني إنكار وجود بعض الخيارات الحقيقية فيما يتصل بالتنظيم، وخاصة خارج قطاع التصنيع، فقواعد الذكاء الاصطناعي في المملكة المتحدة تتسم بكونها أبسط من قواعد الاتحاد الأوروبي، ويمكنها نظريا أن تعمل بالتوازي.
معضلة المصالح الاستراتيجية مع واشنطن
كما قد تأتي معضلة أخرى من الجانب الآخر من الأطلسي. فباعتبارها حليفة وثيقة للولايات المتحدة، تعرضت بريطانيا لضغوط لكبح جماح تقدم الصين في مجال التكنولوجيا الحساسة ذات العواقب الأمنية الوطنية. واستسلمت المملكة المتحدة لضغوط واشنطن لتقييد حضور شركة الاتصالات الصينية هواوي في شبكة الجيل الخامس.
وووفق الصحيفة، فإذا زادت هذه الضغوط، فقد تردع المملكة المتحدة عن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وعلى سبيل المثال، ينظر الرئيس جو بايدن إلى السيارات الكهربائية الصينية باعتبارها تهديدًا محتملًا للأمن القومي بسبب البيانات التي تجمعها، ويطلق عليها “الهواتف الذكية على عجلات”. لكن الاتحاد الأوروبي لا يتفق مع هذا الرأي، وقد رحب باستثمارات السيارات الكهربائية الصينية في الاتحاد.
إذا كانت صناعة السيارات في المملكة المتحدة ستنجو من التحول الأخضر، فهي بحاجة إلى الوصول إلى سوق الاتحاد الأوروبي وبناء شبكات قيمة مع منتجي الاتحاد الأوروبي.
ضغطت صناعة السيارات في المملكة المتحدة بقوة ونجاح لتمديد قواعد المنشأ السخية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتي ساعدت في الحفاظ على سلاسل التوريد الخاصة بها، وفق التقرير، الذي يشير إلى أن الضغط من أحد حلفاء بريطانيا الرئيسيين في الاستخبارات والسياسة الخارجية لتجنب نموذج الاتحاد الأوروبي للتحول إلى السيارات الكهربائية سيكون آخر شيء تحتاجه.
خيارات واسعة
ويضيف تقرير الصحيفة: سوف تواجه حكومة حزب العمال القادمة مجموعة من الخيارات المنفصلة فيما يتصل بالتوافق وتحديا أوسع نطاقا يتمثل في تحديد المسار، بما في ذلك متابعة الدفاع التجاري للاتحاد الأوروبي، وتبني تسعير الكربون في الاتحاد الأوروبي، وسياسة مكافحة إزالة الغابات، ونسخ ولصق لوائح إزالة الغابات، وهي الخيارات السهلة.
أما التحدي الأصعب فهو التكامل مع الحفاظ على قطاع الذكاء الاصطناعي حرا بما يكفي للابتكار وإرضاء الحلفاء في مجال الأمن القومي. وربما لا يرغب حزب العمال في الحديث عن التوافق مع الاتحاد الأوروبي أثناء الحملة، لكنه لا يستطيع تجنب الموضوع بمجرد وصوله إلى السلطة.
مهمة الحكومة الجديدة
من لندن، يقول الخبير الاقتصادي، أنور القاسم، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن مهمة الحكومة الجديدة المرتقبة ستكون تحفيز النمو الاقتصادي، وذلك يستدعي إعادة فتح مفاوضات مثيرة للجدل مع بروكسل، على حد وصفه.
ويعول السير كير ستارمر زعيم حزب العمال على إمكانية إلغاء القيود التجارية مع الاتحاد الأوروبي لمساعدة الشركات، خاصة الصغيرة منها، التي تعاني من ارتفاع التكاليف، وكثرة الإجراءات البيروقراطية، وفق القاسم، الذي يشير إلى معاناة الشركات البريطانية الصغيرة والمزارعين من تداعيات الخروج من التكتل على تجارتهم.
ويتابع: من الواضح -حسب تصريحات كبار المسؤولين في الحزب- أنه بحاجة إلى التوصل إلى اتفاق أفضل، وهناك تحسينات حقيقية يمكن التوصل إليها، كما يأمل مع الاتحاد الأوروبي.
ويستطرد: على الجانب الآخر من الأطلسي هناك علاقة متجذرة بين واشنطن ولندن، لكنها تعرضت للضعف اقتصادياً بعد استلام الديمقراطيين بزعامة الرئيس جو بايدن الحكم، وإخفاق المملكة المتحدة بعقد اتفاق اقتصادي طموح يحل مكان ما ستخسره نتيجة خروجها من الاتحاد الأوروبي، هذا الوعد الذي قطعه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قبل أن يغادر البيت الأبيض، بحسب الخبير الاقتصادي.
ويتابع القاسم: الفرصة قد تكون مواتية في نهاية العام إذا عاد ترامب للبيت الأبيض، لكن بشروط كبيرة قد تكون صعبة للاقتصاد البريطاني، الذي سجل أسوأ أداءً بين الدول الصناعية السبع الكبرى، خاصة وأن حجر الزاوية في استراتيجية ترامب هي أميركا أولاً.
معاناة شديدة
بدوره، يؤكد المحلل والباحث المقيم في لندن، عضو حزب العمال البريطاني، مصطفى رجب، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أنه منذ بدء رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون حملته للخروج من السوق الأوروبية والاتحاد الأوروبي فقد ضلل الشعب، إذ “ادعى دفعنا أموال كثيرة للمشاركة فيهما زاعماً أن نتيجتها فتحت الباب للمهاجرين ومعاناة البلد”، على حد وصفه.
وبناء على هاتين النقطتين نفذ جونسون حملته، ولم تكن هناك حملة مضادة له؛ لأن الحكومة كانت معتقدة بنسبة 80 بالمئة بأن الشعب سيصوت للبقاء في السوق الأوروبية، وما حدث كان على النقيض، حتى الأجانب الموجودين في بريطانيا أسهموا في التصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية، وفق عضو حزب العمال البريطاني.
ويوضح رجب أن النتيجة كانت الخروج، وهذه النقطة تمثل نقمة اقتصادية شديدة جداً على بريطانيا، فالحكومات البريطانية في العادة تدعو الأجانب الموجودين داخلها للاندماج والتفاعل وأن يكونوا إيجابيين، لكن على النقيض انفصلوا، ولم يندمجوا.
نتيجة لذلك وقعت نتائج اقتصادية وخيمة على بريطانيا، فالشركات الكبيرة التي كانت تتعامل مع أوروبا أوقفت هذا التعامل، كذلك فإن تسهيلات الشركات توقفت، وفق الباحث المقيم في لندن، الذي يستكمل: “أنا كمواطن بريطاني كنت أسافر أية دولة أوروبية، لم تكن هناك أي مشاكل في المطارات، ولا أي مشاكل في استعمال السيارة أو الهاتف، اليوم كل هذه المميزات مُنعت على المواطن بشكل أو بآخر، وهذه مميزات فردية”.
بينما البضائع والخضراوات، والأمور التي كانت تستوردها بريطانيا، أمامها معوقات الآن، من أول وصولها إلى أسعارها، وأصبحت السوق البريطانية تفتقد لأمور كثيرة جداً، وأخطرها مسألة الدواء، فالتعامل مع شركاته توقفت نسبياً، وهناك نقص كبير في الأدوية، وأصبحت الحالة الاقتصادية خاصة في السوبر ماركت، والمحلات الكبيرة والاستيراد والتصدير مضطربة، وفق رجب.
ولمعالجة هذا، حاولت بريطانيا اللجوء إلى الشرق الأوسط وآسيا كأسواق أخرى، ولكن هناك عوائق مثل: البعد والجودة، التي تختلف اختلافاً كبيراً، فالتاثير سلبي للغاية.
ويوضح عضو حزب العمال، أنه كان من المقرر أن تكون أميركا بديلاً للسوق الأوروبية، لكن ذلك أثبت فشله؛ لأن الشركات الأميركية تعتمد على الربح في المقام الأول، ولن تصل إلى سد الحاجة الموجودة في السوق البريطانية، والنتيجة البريطانيون يعانون من التعامل الاقتصادي مع أميركا وأوروبا على حد سواء، متمنياً الرجوع للسوق الأوروبية، والاتحاد الأوروبي؛ لسد المعاناة التي يعانيها الاقتصاد البريطاني.