
رندة حجازي فنانة تشكيلية معاصرة تحمل الهوية السورية–الكندية، قادتها رحلتها من دمشق إلى دبي، وصولًا إلى مدينة لافال في مقاطعة كيبيك، حيث استقرت منذ عام 2017. وُلدت في دمشق وتخرّجت في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق عام 2000، ثم وسّعت دراساتها في مجال الإعلام وعلوم الاتصال في الجامعة نفسها وتخرّجت عام 2008.
هذا الجمع بين الفنون الجميلة والصحافة منحها رؤية مركّبة للعالم، فهي قادرة على التنقّل بين العين الحادة للمصوّر الصحفي واليد المنفتحة للفنان التشكيلي. وغالبًا ما تعكس لوحاتها هذا التوتر: حيث يلتقي التفصيل التوثيقي بالوقع العاطفي.
لقد شكّل عبورها بين ثقافات ومناظر طبيعية وتجارب إنسانية مختلفة مسيرةً فنية ترتكز إلى التعاطف وقوة الصمود البشري. ففي أعمالها، لا يكون اللون والرمز والشكل مجرد خيارات بصرية، بل وسائل لسرد حكايات عن الألم، والقوة، والبقاء.

اللوحة: الفلامنغو والمرأة
اللوحة التي أبدعتها رندة حجازي مباشرة خلال حفل بنك CIBC في لافال، كانت في آنٍ واحد عملاً فنياً وأداءً حيّاً. أمام 450 شخصاً، لم ترسم حجازي صورة وحسب، بل جسّدت فعل تضامن. هذا العمل كان جزءاً من معرضها الفردي “لنحارب معاً”، الذي ضم 66 عملاً مكرّساً لمريضات سرطان الثدي. لاحقاً، تم طرح اللوحة في مزاد علني، وقد ازدادت قيمتها بفضل لحظة الإبداع المشتركة التي وُلدت أمام الجمهور.

في قلب اللوحة تقف امرأة مغمضة العينين. هي تتألم، لكن ملامحها تحمل استسلامًا هادئًا، يكاد يكون سلامًا داخليًا. يلتف حولها طائر الفلامنغو، جناحاه منحنِيان كدرع. الطائر لا يقف ولا يتباهى فحسب؛ بل يحتضن. تتحول ريشاته الوردية إلى حاجز وبلسم في آن، لتجعل من الهشاشة قوة حماية.
اختيار حجازي للفلامنغو لم يكن اعتباطيًا، فهو طائر يختزن رمزية عميقة. إنه كائن التوازن، يقف بثبات على ساق واحدة، متأرجحًا بين السكون والحركة. وهذه الصفة تعكس معركة المرأة نفسها، وهي تحاول أن تبقى واقفة رغم ثقل المرض، محافظة على توازنها بين الخوف والأمل. كما أنّ الفلامنغو طائر جمال، بوقفته الفريدة ولونه المشرق، ليذكّر المرأة بجمالها الداخلي الذي لا يمكن للمرض أن يمحوه.

الفلامنغو معروف أيضاً بولائه، إذ غالباً ما يختار شريكاً واحداً مدى الحياة. هذا التفصيل يوازي حاجة الإنسان إلى الرفقة في مواجهة الشدائد. فالمرأة في اللوحة لا تقف وحيدة؛ حولها حضور غير مرئي يتمثل في شريك، عائلة، وأصدقاء—أشخاص يقدّمون الحب والصبر والدفء حين تضعف. حجازي تبرز هذه الحقيقة من دون أن ترسمهم مباشرة، إذ يصبح الفلامنغو تجسيداً لإخلاص البشر.
أما اللون فيحمل بدوره رمزية خاصة. فاللون الوردي للفلامنغو، الناتج عما يتغذى عليه، يوحي بفكرة التجدد. فالجسد قد يتغير، يضعف، أو حتى يفقد شكله، لكنه قادر أيضاً على استعادة طاقته بحياة جديدة. بهذا المعنى، لا يكون الوردي مجرد صباغ، بل استعارة للشفاء. وحجازي توظّفه لتقول: التحوّل ممكن، حتى حين يعاني الجسد.

تُقرأ اللوحة وكأنها حوار صامت. المرأة تغمض عينيها كأنها تُصغي إلى الطائر، فيما ينحني الفلامنغو نحوها وكأنه يهمس: ما زلتِ قادرة على الوقوف، وما زلتِ قادرة على التألق. ليست هذه مشهد هزيمة، بل صورة صمود، وصونٍ للتوازن في لحظة بالغة الدقة.
ما يمنح العمل قوته هو بساطته. لم تُثقل حجازي اللوحة بالتفاصيل الزائدة، بل ركّزت على الحركة، والرمز، والعلاقة. فجاءت النتيجة لوحة ناعمة ومباشرة، تحمل في طياتها هشاشة الإنسان وصلابته في آن.
كما أن السياق العلني لولادة العمل له دلالته. أن تُرسم صورة بهذه الحميمة أمام مئات الحاضرين حوّل الألم الفردي إلى تعاطف جماعي. كل ضربة فرشاة غدت جزءاً من أداء يقوم على الرعاية، يربط قصة امرأة واحدة بالنضال الأكبر ضد سرطان الثدي. والمزاد الذي تلا عزّز هذا الرابط، محوّلاً الفن إلى وسيلة لدعم المرضى ومساندتهم.
في النهاية، اللوحة أكبر من مجرد صورة لامرأة وطائر؛ إنها حكاية بقاء تُروى بالرمز واللون والشكل. المرأة تجسّد صفات تعكس الفلامنغو: الجمال، التوازن، الوفاء، والتجدّد. ومعاً يشكّلان صورة واحدة للأمل. الأجنحة ليست مجرد ريش، بل إيمان، وحب، وصلابة الروح البشرية.
تُذكرنا لوحة حجازي أنه حتى وسط الألم، ثمة فسحة للنور. وحتى عندما نقف على ساق واحدة، يمكننا أن نظل منتصبين. وحتى في المرض، هناك فرصة لاستعادة الألوان، وللشفاء، وللتألق من جديد.




