ثقافة وفنون

المعلن والخفي في مذكرات دونالد رامسفيلد (2-2)

كتب كمال مساعد

يقول رامسفيلد إن بوتين ترك لديه انطباعاً بأنه مهتم بخیار توثيق العلاقات مع الناتو والغرب واتهم الناتو بأنه لم يكن متقبلاً لإدراج روسيا في استراتيجية دفاعه الجماعي.

في الحلقة الثانية من مراجعتنا لكتاب “المعلن والخفي: مذكرات وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد”، الصادرة ترجمته العربية عن دار الرافدين للنشر والتوزيع في بيروت، يتناول رامسفيلد عدداً من القضايا، من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، إلى هجمات 11 أيلول / سبتمبر  والحرب المزعومة على الإرهاب، وصولاً إلى تبرير غزو العراق.

التحدي الأميركي خلال الحرب الباردة

يشير رامسفيلد في كتابه إلى أن التحدي الأميركي كان عام 1957، عندما أطلق السوفيات “سبوتنيك”، أول قمر صناعي يدور حول الأرض، و”فوجئ الشعب الأميركي عندما وجد بلادنا مضطرة للحاق بالروس في مجال افترضنا أننا الأكثر تفوقاً فيه. اقترح الرئيس كينيدي زیادة حادة في الاستثمار الأميركي في برنامجنا الفضائي. لقد طرح خطة طموحه تجعل الولايات المتحدة «تلتزم بتحقيق الهدف قبل انتهاء هذا العقد، عبر إنزال رجل على سطح القمر وإعادته سالماً إلى الأرض». استحوذ هذا الوعد الجريء على خيال البلاد. في عصر القدرة على فعل أي شيء، تساءل الأميركيون لماذا لا نستطيع الذهاب إلى القمر؟”.

يضيف رامسفيلد: “لقد فهمت السحر الكامن وراء سير الأميركي على سطح القمر. علمت أيضاً أن الإدارة كانت تحاول أن تخفف الانتقادات من اليسار بأن الفضاء سيصبح الحدود القادمة في الحرب الباردة، من خلال التأكيد على مهام وكالة ناسا السلمية والمدنية. لكنني نظرت إلى فكرة الهبوط على سطح القمر بشكل مختلف نوعاً ما. تساءلت هل هذا أفضل استخدام للموارد المحدودة؟ لم يكن السوفيات قلقين بشأن إظهار النوايا السلمية”.

ويشير رامسفيلد إلى أنه عمل خلال هذه الفترة لأول مرة مع مستشار الأمن القومي هنري كيسنجر. يقول: “تأثرت كثيراً بقدرة كيسنجر غير المألوفة على ترتيب الأمور كما يرغب. لم يكن كیسنجر ضمن دائرة أي شخص في البيت الأبيض، وبمرور الوقت أصبح قوة مستقلة في حد ذاته. حتى أن کیسنجر كان المعلم ونیكسون الطالب، على الرغم من أن كیسنجر عُرف حينها بكونه شخصية حاسمة في السياسة الخارجية الأميركية الحديثة”.

فضيحة ووتر غيت

يتناول رامسفيلد فضيحة ووتر غيت ويقول: دهشت في ذلك الصيف عندما قرأت أن الرئيس نیکسون سجل سراً محادثاته في البيت الأبيض والمكتب التنفيذي. يبدو أن نیکسون ظن أن تسجيل كل كلمة له هي فكرة جيدة، وأنه سيضمن مكانه في التاريخ الأميركي،  لقد فعل ذلك بالتأكيد – ولكن ليس بالطريقة التي قصدها. لقد وجدت أن التسجيل السري فعل مخادع. قدمنا له جمیعاً ملاحظات صريحة غير مدركين أنه يسجل محادثاتنا، في حين كان قادراً بالطبع على توخي الحذر في ذکر ملاحظاته.

يتابع: مع تفاقم فضيحة “ووتر غيت”، راح حلفاؤنا يثيرون التساؤلات تدريجياً بشأن تراجع قوة رئيس أميركا. وما زاد من تعقيد المشكلة حقيقة أن الأوضاع السياسية في العديد من دول الناتو كانت أيضاً غير مستقرة”.

حرب تشرين / أكتوبر

يروي رامسفيلد: في أوائل تشرين الأول / أكتوبر 1973، اندلعت حرب أكتوبر (حرب يوم الغفران). بدأت الحرب عندما شن تحالف من الدول العربية بقيادة مصر وسوريا، هجوماً مفاجئاً على “إسرائيل”. وفي ظل تصاعد التوترات، تلقيت مكالمة هاتفية من الأمين العام لحلف الناتو الجنرال جوزيف لونز. وعلمت أن قواتنا في المنشأة العسكرية في إيطاليا يتم حشدها بأمر من الرئيس للمساعدة في إيصال الإمدادات للإسرائيليين. على الرغم من أن إيطاليا، بالطبع، كانت حليفة في الناتو، لم يكن سفير إيطاليا في الناتو يعرف شيئاً عنها، ولم يعرف أي شخص آخر في الناتو، بمن فيهم الأمين العام للحلف لونز وأنا كما هو واضح. شددت منذ وصولي إلى بروکسل على أهمية الثقة والتشاور داخل الحلف، لكنّنا هنا لم نفِ بوعدنا. لقد كانت واقعة محرجة. بل أكثر من ذلك، فقد اعتبرتها دلالة على أن ضغوطات فضيحة – ووترغيت تركت أثرها على البيت الأبيض”.

معاهدة الحد من الصواريخ

يقول الكاتب: كما كان متوقعاً، سعى الاتحاد السوفياتي إلى استغلال الصعوبات التي يواجهها خصمه الرئيسي. تحت قيادة الأمين العام للحزب الشيوعي ليونيد بريجينيف، كان السوفيات يلعبون على الحبلين في جميع أنحاء العالم. لقد جهزوا حشداً عسكرياً كبيراً في الداخل وانخرطوا في أنشطة عدوانية في إفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا، في حين أعلنوا عن رغبتهم في السلام والانفراج الدوليين. صدق الكثيرون في الغرب، والعديد من أعضاء الناتو، خطاب السوفيات في ظاهره. حتى أن البعض في الغرب بدا على استعداد لإلقاء اللوم على حكوماتهم، وخاصة الولايات المتحدة، باعتبارها المصدر الحقيقي للتوتر وعدم الاستقرار في العالم. وبتشجيع من الاتحاد السوفياتي، خرج الملايين حول العالم في تظاهرات احتجاجية – لم يتظاهروا ضد العدوان السوفياتي بل ضد الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى.

يضيف رامسفيلد أن القضية الرئيسية، وإن كانت مثيرة للجدل، في المناقشات حول معاهدة “سالت” هي مصير صواريخ كروز الأميركية. تتنوع صواريخ كروز في مداها ويمكن تسليحها برؤوس نووية أو تقليدية ويمكن إطلاقها من البر أو البحر أو الجو. جعلتها مرونتها غير العادية نظام تسليح مرغوباً للغاية. كما جعلتها أيضاً عاملاً معقداً خطيراً في المفاوضات للحد من حجم ترسانتنا النووية. كان لأميركا ريادة لا تضاهي في تكنولوجيا صواريخ كروز. واضطر السوفيات إلى إنفاق كميات كبيرة من مواردهم لمواكبة جهودنا، لذلك أراد السوفيات أن نعد بالحد من تطوير صواريخ كروز في معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الثانية “سالت2”. وكان من الممكن إبرام الاتفاقية لو رضخ الرئيس فورد لهذه المطالب. في حين أن كيسنجر وروکفلر، وغيرهما من المتحمسين للتوقيع على معاهدة مع السوفيات، كانوا على استعداد للموافقة على ذلك. لم أشعر بالارتياح للموافقة على الحد من ميزة نمتلكها والتي لم نتمكن من التنبؤ بطبيعتها بالضبط في ذلك الوقت.

وتابع: حاول کیسنجر في أحد الاجتماعات إلقاء اللوم على هيئة الأركان المشتركة في التعنت بشأن قضية صاروخ كروز. قلت له إنهم ليسوا العائق – بل أنا. لقد شجعت الرئيس على تأخير أي معاهدة تتطلب تقييد تقنيات صواريخ كروز خاصتنا بصفته جزءاً من الصفقة. احتاجت وزارة الدفاع إلى مزيد من الوقت لتقييم مزايا البنود المحددة في المعاهدة قبل الموافقة عليها.

الاتحاد السوفياتي في أفغانستان

ثم، في كانون الأول / ديسمبر 1979، ولم يكن قد مضى ستة أشهر على توقيع کارتر على ما اعتبره اتفاقاً تاريخياً للحد من الأسلحة الاستراتيجية، “سالت2″، مع زعيم الاتحاد السوفياتي ليونيد بريجنيف، توغلت الدبابات السوفياتية في أفغانستان. صدم الغزو کارتر، الذي بدا مستغرباً من أن البلد الذي رآه شریكاً له في السلام يشارك في مثل هذا السلوك الحربي والتوسعي. أدلی کارتر ببيان مشين وكشف أنه تعلم عن السوفيات في أسبوع واحد أكثر مما تعلمه خلال حقبة رئاسته بأكملها.

يضيف رامسفيلد: بالتالي فإن فكرة أن رئيس الولايات المتحدة فوجئ بقدرة الاتحاد السوفياتي على الكذب والعدوان محرجة للغاية. وصفت مجلة “تايم” المتعاطفة عموماً تعلیق کارتر بأنه «ساذج بشكل مثير للانتباه». بعد أن درست معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية “سالت2″، وافقت على الشهادة ضدها أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ. بالنظر إلى سلوك الاتحاد السوفياتي في الماضي، بدا لي من الخطر الاعتقاد بأن السوفيات لن يستغلوا المعاهدة من أجل تحقيق هدفهم المتمثل في التفوق العسكري. ولكن حرصاً على التصديق على المعاهدة، رفض کارتر وأنصاره في مجلس الشيوخ هذه الآراء إلى أن عرفوا بالغزو السوفياتي لأفغانستان.

يقول الكاتب: كنت أعتقد أن على كارتر زيادة ميزانية الدفاع الأميركية رداً على الغزو السوفياتي لأفغانستان، وتجنّب مفاوضات الحد من الأسلحة، والعمل مع حلفائنا في الناتو لتشجيعهم على التعامل مع المشاكل خارج المنطقة التي تغطيها معاهدة الناتو، وتقديم المساعدة لباكستان والدول الأخرى المجاورة لأفغانستان والتي بإمكانها مساعدة الأفغان على مقاومة القوات السوفياتية. وربما من المفيد أيضاً أن يتوقف کارتر عن الإدلاء بتصريحات غير دقيقة بشكل واضح، مثل أن الزعيم السوفياتي بريجينيف «شاركنا تطلعاتنا» في حين أظهر بريجينيف مراراً وتكراراً أنه لم يفعل ذلك.

يشير رامسفيلد الى أنه في 4 تشرين الثاني / نوفمبر 1979، احتجز الإسلاميون في إيران 66 أميركياً رهائن في السفارة الأمركية في طهران. وانتهت محاولة «دیزرت ون»، وهي محاولة أميركية لإنقاذ الرهائن، بتحطم مأساوي لمروحية في الصحراء الإيرانية ومقتل ثمانية جنود أميركيين. ما بين تلك المهمة الفاشلة واستجابة كارتر الضعيفة للغزو السوفياتي لأفغانستان، أكدت قراراته في أذهان العديد من الأميركيين أنهم انتخبوا رئيساً يفتقر إلى فهم كافٍ للعالم الذي نسكنه.

الانسحاب من معاهدة الصواريخ البالستية

يرى الكاتب أن كانت الخطوة الضرورية لتنفيذ برنامج دفاع صاروخي أولي هي إزالة الحاجز القانوني أمام تطوير النظام: تم الانسحاب من معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية (ABM). يقول: اعتقدت أن الوقت حان للانسحاب من معاهدة غير مواتية، علاوة عن أنها باتت غير قانونية منذ عام 2001. بدت إدارة الرئيس جورج بوش الإبن متفقة بخصوص هذه النقطة. في محاولة للمساعدة في تهدئة المخاوف بشأن مصالحنا الدفاعية الصاروخية، قمت في آب / أغسطس 2001 بزيارة إلى موسكو، وكانت الأولى لي بصفتي وزيراً للدفاع في عهد بوش. كانت آخر مرّة سافرت فيها إلى روسيا بصفتي عضواً في الحكومة مع الرئيس فورد لمناقشة معاهدة جديدة للحد من الأسلحة الاستراتيجية مع الزعيم السوفياتي ليونيد برييجنيف. على الرغم من أن الرئيس الحالي فلاديمير بوتين نشأ في الحقبة السوفياتية عضواً في الاستخبارات السوفياتية، فقد كانت له نظرة مختلفة عن بريجينيف. فبوتين أكثر دراية بوسائل الإعلام وأكثر حداثة. يتمتع بالثقة بالنفس والحيوية، وهو بلا شك أحد الأصول السياسية في بلد يشيخ سكانه. بدأ لقاؤنا في الكرملين مع الرئيس بوتين بمونولوج على النمط السوفياتي، حيث حدد مواقفه بقوة وجذب الانتباه.

فيما يتعلق بالمسألة محور زیارتي – معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية – قال بوتين شيئاً اعتقدت أنه يؤمن به، لكنني لم أتوقع منه أن يقوله. أخبرني أنه غير متمسك بعقيدة الحرب الباردة القديمة للتدمير المتبادل المؤكد، والتي سعت إلى استخدام التهديد بتبادل نووي کرادع بين القوى العظمى. وأضاف أنه فهم أن نظامنا للدفاع الصاروخي المقترح سيكون صغير الحجم ومصمم لردع الدول المارقة والدفاع ضدها. وأنه يعلم جيداً أنه يمكن أن تطغى عليه الترسانة الروسية، وأنه بمجرد تشغيل النظام، يمكن أن ينجح في الدفاع ضد حفنة، وليس الآلاف، من الصواريخ. لكن بوتين اعترف صراحة أن لديه معضلة سياسية. وكشف إنه قد يبدو وكأنه «خائن» للأمن القومي الروسي، إذا سمح للولايات المتحدة بالانسحاب من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية من دون احتجاج.

وتابع رامفسيلد: ترك لي بوتين انطباعاً بأنه مهتم بخیار توثيق العلاقات مع الناتو والغرب. وأشار إلى أن روسيا تطرد من نظام الدفاع الغربي المتحضر. واتهم الناتو بأنه لم يكن متقبلاً لإدراج روسيا في استراتيجية دفاعه الجماعي. كانت العديد من دول الناتو – وخاصة تلك القريبة من الحدود الروسية – حذرة من الروس وكان الآخرون غير راغبين في التعامل مع الدول التابعة السوفياتية.

وأضاف: بينما كان الانطباع أن الأمور هادئة، قمت بتذكير الرئيس بوش بتقاریر مجتمع الاستخبارات: إيران تسعى للحصول على أسلحة كيمائية وبيولوجية ونووية؛ وكوريا الشمالية تسعى بقوة للحصول على صواريخ باليستية طويلة المدى وأسلحة نووية؛ والصينيون يزيدون من قدراتهم العسكرية في جميع المجالات. وبالتالي لا يجوز أن يأتي الدفاع الوطني بعد القضايا الداخلية على قائمة الأولويات. أصغى إلي الرئيس، لكني سرعان ما أدركت أنني لم أكن مقنعاً بما فيه الكفاية. وافق بوش على زيادة قدرها 18 مليار دولار لموازنة وزارة الدفاع، أي حوالى نصف ما أوصيت به. شعرت بخيبة أمل، في حين شعر الآخرون بالغضب. وصف بعض المحافظين خطة بوش للإنفاق الدفاعي بأنها «غير دقيقة ومتهورة».

وتنبأ رامسفيلد: أنه «في وقت ما، خلال الفترة المقبلة، سيقع حدث في مكان ما من العالم ويكون صادماً جداً وسيذكر الشعب الأميركي وممثلوه في واشنطن بمدى أهمية أن يكون لدينا دفاع وطني قوي». وفي صباح ذلك اليوم من 11 أيلول / سبتمبر من عام 2001، أرسل لي مساعدي العسكري الأقدم، الأدميرال إدموند جيامباستياني، ملاحظة.

11 أيلول التحدي الكبير

يقول الكاتب: اصطدمت طائرة بأحد برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك. لقد كانت، كما افترضت، حادثة مأساوية. وكان  أعضاء الكونغرس، الذين عادوا إلى الكابيتول هيل، وهربوا بفارق بضع دقائق فقط من المشهد المؤلم الذي كان على وشك الوقوع في البنتاغون. بعد بضع دقائق انفجرت كرة نارية من برج مركز التجارة العالمي الآخر عندما مزقت طائرة ركاب ثانية الطوابق العليا من المبنى. في غضون سبع عشرة دقيقة ما بين تحطم الطائرة الأولى والثانية، انتقل العالم من فترة تاريخية إلى أخرى. شاهدت، بذهول، البرجين التوأمين لمركز التجارة العالمي، رمزا القوة الاقتصادية لأميركا، يغمرهما الدخان والنيران. وبعدها تصاعدت سنوات من الأعمال الإرهابية الوقحة بشكل متزايد ضد المصالح الأميركية والغربية حتى تسببت في الكارثة المعروضة الآن على شاشات التلفزيون في جميع أنحاء العالم. لكنها لم تكن الأخيرة.

ويضيف رامسفيلد: كنت لا أزال في مكتبي في البنتاغون، أحاول استيعاب أخبار الهجمات في نيويورك، عندما شعرت باهتزاز المبنى، علمت أن شيئاً هائلاً فقط هو الذي يمكن أن يتسبب في ارتعاش مئات الآلاف من الأطنان من الخرسانة، وفي ملاحظة يشير الى الطاولة الخشبية المستديرة الصغيرة التي كنا نعمل عليها، والتي استخدمها يوماً الجنرال ويليام تیکومسیه شیرمان. وهو جنرال أسطوري في الاتحاد شق طريقه عبر الجنوب لتغيير مجرى الحرب الأهلية، واشتهر شيرمان بتعليقه الشهير: «الحرب هي الجحيم». نزل الجحيم على البنتاغون. لقد وجدت ردود أفعالنا على الاستفزازات والهجمات التي قام بها أعداؤنا خلال العقد الماضي مترددة، وفي بعض الحالات، عقيمة، ومنها: السماح للزعيم الليبي معمر القذافي بالنجاة من العقاب على الدور الذي لعبه في تفجير رحلة بان أميركان 103؛ وهجوم مرکز التجارة العالمي الأول عام 1993؛ والاغتيال المدبر لجورج بوش الأب على يد عملاء عراقيين في العام نفسه؛ وتراجع أميركا تحت النيران في مقادیشو عام 1993؛ وتفجير أبراج الخبر في السعودية عام 1996، وتفجيرا سفارتي شرق إفريقيا عام 1998، وهجوم عام 2000 على المدمرة الأميركية كول. خلّف التقاعس من الإدارات السابقة الانطباع بأن الولايات المتحدة تميل للخلف وليس إلى الأمام.

من جهته أفاد جورج تينيت مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أن مجتمع الاستخبارات يعتقد الآن ببعض الثقة أن شبكة القاعدة التي يتزعمها أسامة بن لادن هي المسؤولة عن الهجمات. اكتشفت وكالة الاستخبارات المركزية أن اثنين من الخاطفين يشتبه في أنهما من نشطاء “القاعدة”- بمن فيهم شخص كان على صلة بتفجير المدمرة الأميركية كول في اليمن عام 2000. وقبل شهر واحد من أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، قام رمزي بن الشيبة، أحد كبار ضباط تنظيم القاعدة ممن هم على اتصال وثيق مع إبن لادن، بمناقشة تفاصيل العملية مع الخاطف الرئيسي محمد عطا. ما تحدثا عنه في الواقع هو الأهداف التي يجب ضربها: «العمارة» تعني مركز التجارة العالمي. وتشير كلمة «الفنون» إلى البنتاغون؛ و«القانون» إلى مبنى الكابيتول؛ و«السياسة» إلى البيت الأبيض. وبينما يسرد هذه المعلومات المخيفة، حذر جورج تینیت من احتمال وقوع هجمات أخرى من النمط نفسه.

يتابع رامفسيلد: لقد أشرت إلى أن لدينا القليل من المعلومات الاستخبارية المحددة لدعم استهداف النشطاء الإرهابيين أنفسهم، مثل الحسابات المصرفية للإرهابيين والجهات الراعية لهم من الدولة. إذا مارسنا ضغطاً كافياً على تلك الدول – ولا يعني هذا بالضرورة ضغطاً عسكرياً – فقد تشعر بأنها مضطرة لكبح جماح الجماعات الإرهابية التي تدعمها. وربما يمكننا هذا من تقييد الجماعات التي لا تستطيع وكالات استخباراتنا تحديد مكانها.

العراق من بين الأهداف

يقول رامسفيلد: لقد كتب كثيرون عن تركيز إدارة بوش على العراق بعد هجمات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر. وأشار إلى أنه ليس من الغريب أن يثير الرئيس بوش ومستشاروه أسئلة حول ما إذا كان صدام حسين وراء الهجوم بطريقة ما. لم أفهم أبداً وجه الخلاف. سابقاً، لم يكن لدي أي فكرة عما إذا كان العراق متورطاً أم لا، لكن من الإهمال ألا تطرح أي إدارة هذا السؤال. من الواضح أن الآمال التي عقدتها عندما عملت مبعوثاً للرئيس ريغان في الشرق الأوسط من أجل علاقة أكثر إيجابية بين العراق والولايات المتحدة لم تتحقق. لقد مرت سنوات عديدة منذ قابلت صدام حسين، وعرفت أنه لم يتغير مع تقدم العمر. لقد خاضت أميركا حرباً ضد العراق لتحرير الكويت من غزو صدام عام 1990. أطلقت القوات العراقية النار على الطيارين الأميركيين والبريطانيين الذين يقومون بدوريات في مناطق حظر الطيران الشمالية والجنوبية التابعة للأمم المتحدة بشكل شبه يومي. ومنذ عام 1990 فصاعداً، أدرج العراق ضمن قائمة وزارة الخارجية للدول الراعية للإرهاب. منذ أن عملت مع بول وولفوويتز عام 1998 في لجنة التهديد بالصواريخ الباليستية، علمت أنه قلق بشأن علاقات الإرهابيين مع الأنظمة المعادية للولايات المتحدة. كان اطلاعه على موضوع العراق موسوعياً. وحاول الضغط على مسؤولي الاستخبارات بشأن الصلات المحتملة بين تفجير مركز التجارة العالمي عام 1993 والعديد من الدول الراعية للإرهاب، بما فيها الحكومة العراقية. ورغم أن محللي الاستخبارات الأميركية في التسعينيات قالوا بشكل عام إن “الإرهابيين الإسلاميين” الذين ارتكبوا أول تفجير لمركز التجارة العالمي عملوا على الأرجح من دون تدخل الدولة، لكن وولفوويتز لم يقتنع.

يضيف: ساءني كثيراً وصف الحملة ضد المتطرفين الإسلاميين بأنها «حرب على الإرهاب» أو «حرب على الإرهابيين». بالنسبة لي، ركزت كلمة «حرب» انتباه الناس على العمل العسكري، وتركت كلمة حرب انطباعاً بأننا سنخوض قتالاً بالرصاص والمدفعية وصولاً لنهاية نظيفة للصراع باستسلام – فائز وخاسر، ونهاية – مثل حفل التوقيع على البارجة الحربية “يو إس. إس میسوري” لإنهاء الحرب العالمية الثانية. كما دفعت الكلمة الكثيرين إلى الاعتقاد بأن الصراع يمكن كسبه بالرصاص وحده. لكني أدركت أن واقع الأمر مختلف.

يتابع الكاتب: من بين التحديات الإستراتيجية الأكثر تعقيداً التي واجهناها هو كيفية محاربة عدو موجود في العديد من البلدان التي لم نكن في حالة حرب معها. على عكس الصراعات التقليدية، حيث كان الأعداء دولاً ويمكن للولايات المتحدة مهاجمة العدو أينما صادفته قواتنا، فقد علمنا أن أعداءنا الحاليين، الإرهابيين، لم يقيموا في أفغانستان فحسب، بل يمكن أن تجدهم أيضاً في باكستان والسعودية واليمن، وفي عدد من البلدان الأخرى. وتلك الدول ذات سيادة – وهي في بعض الحالات أصدقاء وشركاء – لكن نائب وزير الخارجية وولفوويتز حددهم في تصوره الحرب العالمية على الإرهاب، على أنها أوسع من مجرد أفغانستان. في تلك المناقشة في كامب ديفيد أثار وولفوويتز مسألة العراق، لكن بوش أراد إبقاء التركيز على أفغانستان. كما اقترح وولفوويتز أنه حيثما ضربنا أولاً، يجب أن تكون قواتنا الخاصة جزءاً من الاستراتيجية العسكرية. وقد أعجب باستخدام القوات الخاصة لتحديد مواقع صواريخ سكود العراقية وتدميرها خلال حرب الخليج عام 1991.

بعد أسبوعين من أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، كتب في مذكرة أنه «بالإضافة إلى استخدام القوات الخاصة لمهاجمة أهداف مرتبطة بالقاعدة أو طالبان، يجب أن نفكر في استخدام تلك [القوات الخاصة] كنوع من الاتصال المسلح مع العناصر المناوئة للقاعدة، أو العناصر المناوئة لطالبان في أفغانستان».

يوضح رامسفيلد: عند الرجوع إلى الماضي، أعتقد أننا ربما مارسنا ضغطاً أكبر على بعض الشركاء الرئيسيين، مثل المملكة العربية السعودية. شكلت علاقتنا مع السعوديين مصدر قلق مستمر بالنسبة لي في الأشهر التي تلت هجمات 11 أيلول / سبتمبر. في مذكراتي إلى نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الخارجية كولن باول ومستشارة الأمن القومي كونداليسا رایس، شجعت على وضع استراتيجية لتحريك هذا البلد في اتجاه أفضل. مع الإشارة إلى الدعم السعودي للمدارس الدينية (مدارس إسلامية لقنت طلابها أفكاراً متشددة منها معاداة أميركا وشجعت على العنف)، اقترحت على باول السفر إلى البلاد للتعامل شخصياً مع هذه القضايا. كما سألت فريق العمل «كيف نبدأ في الضغط عليهم لحملهم على التصرف بمسؤولية والتوقف عن دعم الإرهاب وأيضاً البدء بالقيام بما يتعين عليهم القيام به إذا كانت لديهم النية للاستمرار كدولة قائمة». بذلت الحكومة السعودية في النهاية جهوداً معقولة ضد “القاعدة” وأتباعها.

ويشير المؤلف الى ان البعض يعتبر أن الحكومة الاميركية بالغت في ردها على هجوم 11 أيلول / سبتمبر وأن مشكلة الإرهاب وتحدي الإسلام المتطرف لم يكونا وليسا بالحجم الكافي لتبرير الحرب على الإرهاب. إن الأيديولوجية الإسلامية الشمولية حركة دولية تعتبر الولايات المتحدة والغرب أعداء – ليس فقط لحركتهم بل أعداء لله. إن أتباع أيديولوجيتهم المتطرفة متحمسون، وهم غالباً متشددون، ويثقون في اقتناعهم بأن مهمتهم المقدسة هي تدمير أعدائهم تماماً ومن دون رحمة. لديهم مزايا القدرة على استخدام التقنيات الغربية، والقدرة على السفر بين الدول، واستغلال انفتاح المجتمعات الديمقراطية الليبرالية والأشخاص الأحرار، مما يمكنهم من التسبب في ضرر كبير لنا ۔ ضرر بحجم يعادل أضعاف ما عانينا منه في 11 أيلول / سبتمبر.

المصدر الميادين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى