المفاوضات التركية-السورية بدأت.. ودمشق ترفض عزل الكرد أو تطويقهم
كانت أنقرة بصدد إقامة “منطقة آمنة” في الشمال السوري على امتداد الحدود معها بعرض لا يقل عن 430 كيلومتراً، وعمق يصل إلى 30 كيلومتراً.
لم يكن الموقف المستجد لوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو تجاه العلاقة الثنائية التركية-السورية، وهو الموقف الأول في نوعه عقب انعقاد “قمة طهران” بين رؤساء روسيا وإيران وتركيا فلاديمير بوتين وإبراهيم رئيسي ورجب طيب إردوغان الشهر الفائت، مجرد موقفٍ دبلوماسيٍ أو تكتيكيٍ متماهٍ مع الأجواء الدبلوماسية التي سادت عقب هذه القمة، من دون أن يكون لهذا الموقف أي ترجمةٍ فعليةٍ وعملانيةٍ على أرض الواقع، لا بل بدأ يتبلور كخريطة طريقٍ رسميةٍ مطروحة من الجانب التركي لمحاولة إعادة العلاقات السورية_ التركية إلى طبيعتها.
وقد قال أوغلو في موقفه حرفياً: “إنَّ بلاده ستقدّم كل أنواع الدعم السياسي لدمشق من أجل إخراج الإرهابيين من المنطقة”، قاصداً بهم “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ذات الغالبية الكردية”، ورأى في الوقت عينه أن وصف سوريا “المعارضة المعتدلة” بالإرهابية ليس أمراً صائباً، وهو يقصد هنا متفرعات “جبهة النصرة” المدرجة دولياً في لائحة الإرهاب العالمي، ولا سيما “هيئة تحرير الشام” التي تسيطر على غالبية محافظة إدلب في الشمال السوري والتي تحظى برعاية أنقرة ودعمها.
وبصرف النظر عما إن كانت هذه الاندفاعة التركية المستجدة نحو دمشق قد جاء نتيجة ضغوطٍ روسيةٍ _ إيرانية، أو جراء الضغوط الاقتصادية التي فاقمها عامل النزوح السوري إلى تركية، وحاجة “حزب العدالة والتنمية” الحاكم في أنقرة إلى إيجاد حلٍ لأزمة النزوح السوري لعدم استغلالها من معارضي إردوغان ضده في الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في حزيران/يونيو 2023، غير أنها اندفاعة جادة ولو لم تسفر عن نتائج مأمولةٍ حتى الساعة، بحسب ما تؤكد معلومات موثوق بها تكشف أيضاً عن مساع تركية لإعادة العلاقات الطبيعة بين أنقرة ودمشق إلى ما كانت عليه قبل الحرب الكونية على سوريا في آذار عام 2011 حينما أدى النظام التركي أكثر الأدوار تخريبًا في هذه الحرب، وفي تمزيق النسيج الاجتماعي السوري، وهو راهنًا يبدي تراجعًا ملحوظًا عما اقترفه في حق الشعب السوري.
وعلى من الرغم من الاختلاف والتباعد في الرؤى وفي الأولويات لدى الجانبين السوري والتركي بدأت المفاوضات بينهما تشق طريقها، ومن البديهي أن تضع سوريا في سلم أولوياته انسحاب جيش الاحتلال التركي من أراضيها، وتوقف أنقرة دعم المجموعات الإرهابية المسلحة، التي تقوّض الاستقرار في البلاد، وفي مقدمها “هيئة تحرير الشام” التي تسيطر على غالبية محافظة إدلب في شمالي البلاد السورية، والتي تحظى برعاية أنقرة ودعمها، وفي المقابل تأتي عودة اللاجئين السوريين في أولى أولويات الجانب التركي، بحسب المعلومات عينها.
وكما ما هو معلوم، كانت أنقرة بصدد إقامة “منطقة آمنة” في الشمال السوري على امتداد الحدود معها بعرض لا يقل عن 430 كيلومتراً، وعمق يصل إلى 30 كيلومتراً، من أجل نقل أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ سوري يقيمون على أراضيها إلى المنطقة المذكورة، حيث بنيت لهم مساكن جاهزة من الأسمنت، ويجري في الوقت عينه إبعاد العناصر الكردية المسلحة عن الحدود مع تركيا. وكانت بصدد توسيع مناطق البيوت الجاهزة لتستوعب هؤلاء اللاجئين، وكل ذلك بتمويلٍ من دولة قطر، بحسب المعلومات عينها المذكورة آنفًا.
وفي حال أقدمت تركيا على تنفيذ عمليتها العسكرية في الشمال السوري ونقلت اللاجئين من تركيا إلى الأراضي السورية، فإن هذا الإجراء يُحتّم على النظام التركي بناء مرافق عامة لهم من مستشفيات ومدارس ومستوصفات وسوى ذلك، ما يرتّب على الخزينة التركية تكاليف مالية يحاول هذا النظام الهروب من تحملها، وفي حال نجاح المفاوضات السياسية التركية-السورية تتكفل دمشق بنقلهم إلى بلادهم، ومن دون أن تتحمل أنقرة الأعباء المالية لعودتهم، لذا تتصف هذه المفاوضات بطابع تقني حتى الساعة أكثر منه سياسي. وهي لم تسفر عن أي نتائج، بحسب المعلومات أيضاً.
وفي الوقت التي تضع فيه دمشق احترام سيادة الدولة السورية على أراضيها كثابتة أساسية، قبل البدء بإعادة ترتيب علاقاتها بالدول التي انخرطت في الحرب عليها، تحرص على عدم عزل أي مكوّنٍ سوريٍ عن سائر مكوّنات المجتمع السوري، والمقصود هنا المكوّن الكردي، فالاتصالات الرسمية السورية، قائمة مع المواطنين السوريين الكرد، لتجنّب عزلهم أو تطويقهم وما شاكل.
كذلك لا يمكن قراءة هذا التحوّل في الموقف التركي حيال العلاقة بسوريا من خارج مشهد عودة تركيا إلى انتهاج سياستها الدبلوماسية السابقة “صفر مشكلات” في علاقاتها الدولية، فلا يمكن أن تستعيد علاقاتها الجيدة السعودية والإمارات العربية، وتقيم تبادلًا دبلوماسياً مع الكيان الإسرائيلي، وتجري اتصالات بأرمينيا، وتبقي في الوقت نفسه علاقتها مقطوعة وحدودها مقفلة مع جارتها سوريا، لما في ذلك من مصالح مشتركة بين البلدين، وتحديداً المصلحة الاقتصادية، وإعادة اللاجئين، على الرغم من الصعوبات التي تعتري العلاقات السورية _ التركية، بسبب التعقيدات التي تشوب القضايا والملفات المتعقلة بالشأنين السوري والتركي.
وعن الموقف السوري من هذه “الاندفاعة التركية”، فمن البديهي أن تنظر دمشق بعين الريبة إلى هذه “الاندفاعة”، وإن استجابت لها بعض الشيء، فقد يكون ذلك بطلب روسي _ إيراني، ولكن نجاح المفاوضات التقنية السورية _ التركية، مرتبط بالتنسيق الروسي _ الإيراني _ السوري _ التركي، وتحديدًا الأداء التركي الجديد تجاه سوريا.