إقتصاد

ينذر بحروب محتملة في ظل الجفاف الذي يهدد المنطقة (ج1)

معالجة أزمات الامن المائي في المنطقة أولوية تفرضها التحديات

خاص “المنبّه” – د. مازن مجوز

تعاني منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من نقصٍ في المياه العذبة، وبعد نضوب النفط ستشهد هذه المنطقة  حروباً بسبب الصراع على المياه؛ لأن خطط التنمية ستعتمد عليها مستقبلاً، كما ورد في كتاب “حرب المياه” للكاتب الأمريكي جول كولي.

ولا عجب في ما نراه من تحديات حقيقية باتت تدق باب العديد من بلدانها، مع ما تحمله من تداعياتٍ وخيمة بفعل الضغط الحاصل في عملية إستخراج المياه الجوفية؛ والذي ينسحب أيضاً على أنظمة المياه الطبيعية فيها.

هذه المخاوف لم تغب عن معظم  الدراسات والأبحاث؛ التي تناولت “قضايا الأمن المائي” في هذه المنطقة منذ فترة الثمانينيات، لكن الفارق اليوم أن مظاهر الخطر الداهم  تلوح في الأفق مجدداً بين بعض الدول العربية وجاراتها بفعل العديد من الخلافات القديمة – المتجددة، على خلفية “تقاسم المياه”؛ مياه  مجموعة من الانهار مثل: نهر النيل، نهري دجلة والفرات، نهر الأردن، نهري الحاصباني والوزاني، والنزاع على مياه “شط العرب”.

وبالإضافة الى ذلك، ترخي ظاهرة التغير المناخي حول العالم بظلالها الثقيلة على هذه المنطقة الواقعة في منطقة مناخية جافة وشبه جافة، وقد شهدت كما العالم العربي تغييراً في البنى الاقتصادية وتزايداً سكانياً هائلاً ، فالتحديات لا تزال ماثلة أمام الكثير من حكومات المنطقة؛ التي تسعى لتحسين أدائها والى تحقيق أكبر قيمة من المشاريع، ما يعني ضرورة تطوير قطاع البنى التحتية فيها وفق  مارتين وولفز، مدير مشاريع البنية التحتية والقطاع الحكومي  في “بي دبليو سي الشرق الأوسط”  في تصريحٍ له في 9 مايو/ أيار  2018.

هذه الحاجة الى التطوير، قابلها توسعاً عمرانياً ونهضة صناعية ( ولو لم تنسحب على الصناعات كافة) في هذه المنطقة، تطلبا كمياتٍ كبيرة من المياه في مُعظم مراحلهما. ولطالما شهدت هذه المنطقة نزاعات بين دولها؛ حيث تشكّل الصحارى 87% من مساحة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فيما تقع 50% من موارده المائية المتجددة خارجه.

ويُمكننا  إدراك حجم فداحة تأثيرات تغير المناخ، من خلال الجفاف أو الفيضانات وغيرها من المخاطر المرتبطة بالمياه، وسيرتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون في أماكن لا تتوافر فيها مياه للشرب بكميات كافية من 1,9 مليار شخص في العقد الماضي إلى 3,2 مليار شخص بحلول العام 2050 ؛ ما يمثل ثلثي سكان العالم، بحسب تقرير صادر عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية بعنوان ” متحدون في العلم United in Science ” في تشرين الاول/أكتوبر الحالي.

الشرح يطول عن مكونات “العجز المائي” في المنطقة وأسبابه- وليس المجال لها هنا- لكن تبقى العوامل (الآنفة الذكر) هي الأساس على الطلب المتزايد على مياه الشرب والري الزراعي ولأغراض الصناعة؛ والتي أدت مع الإفتقار إلى الإدارة المتكاملة للموارد المائية إلى نقصٍ حادٍ في المياه النظيفة المتوفرة . ومن هنا، إكتسبت  الانهار أهمية خاصة كونها المصدر الاساسي للمياه العذبة المتجددة، لدى الكثير من البلدان، وتعددت استخداماتها لأغراض التنمية الشاملة.

الهيمنة أقوى من الإنتفاع المنصف

حتى اليوم، لم تُشكل الأنهار الوطنية (وهي التي تنبع وتجري ضمن إقليم الدولة الواحدة)أي مشكلة قانونية تتعلق باستثمار مياهها، أما الأنهار الدولية فقد بدأت بعض الدول؛ التـي تتقاسم مياهها تُثير قضية “التوزيع العادل” لها، وضرورة إعادة النظر فى التقـسيم القائم؛ والذي جرى  العمل عليه لسنوات طويلة. الأمر الذى أدى إلى بروز مفهوم “الإنتفـاع المنصف بمياه الأنهار الدولية”، كميةً ونوعيةً وحُصصاً.

وإذا ما سلمنا جدلاً،  بأن المياه تُعد عاملاً حيوياً في حياة الشعوب وعنصراً أساسياً في رسم سياسات الدول، وإنطلاقاً من المفهوم المذكور؛ الذي تستند إليه دول المنبع في تبرير محاولات إحتكارها أكبر كمية من مياه النهر؛ الذي يمر عبر  حدودها، وتحويلها إلى عنصر أساس في التنمية الشاملة، نلاحظ اليوم كيف أن أنهار هذه المنطقة الكبرى كالنيل، ودجلة والفرات؛ التي تنبع من أراضي دول غير عربية وتجري وتصب في بلدان عربية، جعل لبعض الدول المشاركة في أحواض الأنهر الدولية ميزة “استراتيجية” و “جيوبوليتيكية” غالباً ما تتميز بها  دول المنبع أكثر دول المجرى أو المصب.

من الواضح ما تتعرض له المياه العربية العابرة للحدود، من عمليات “السيطرة ووضع اليد” على مياه النيل ومياه دجلة والفرات ومياه الليطاني، حتى أن بعض دول المجرى أو المصب تصفها بعمليات إغتصاب لحقوقها ولحقوق بقية البلدان المتشاطئة على هذه الأنهار، ما جعل إحتمال تحول النزاع القائم حولها إلى حرب بين هذه البلدان أمراً غير مستبعد .

وتتجلى عملية “السيطرة ووضع اليد” الاولى ببناء أثيوبيا سد النهضة؛ الذي عرف أولاً بسد الألفية وهو يعد أكبر السدود الأربعة؛ التي بنتها أثيوبيا في الفترة الممتدة بين ( 2011- 2019 )؛ والتي تصل سعتها الإجمالية إلى 150 مليار متر مكعب، ما يسمح لها بالتحكم في تصريف مياه النيل بالكامل، باعتبار أن هذه السدود تبتلع كامل طاقة تصريف النيل الأزرق – أحد روافد النيل الأساسية.

في الواقع، هذا السلوك جعل الهوة تتسع بين مصالح دول حوض النيل، حتى وصل الخلاف إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ العلاقات بينها بخصوص هذا السد، ويشكل تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب؛ الذي وصف بالمفاجىء والنادر في 23 تشرين الأول /أكتوبر  2020 دليلاً ساطعاً على إحتمال تحول الأزمة إلى مستوى نزاعٍ عسكري يعيد مجدداً عدم الاستقرار إلى شرق أفريقيا. ويفيد التصريح بأن الأمر قد ينتهي بالمصريين إلى تفجير السد مؤكداً -وبصوتٍ عالٍ وواضح- أنهم سيُفجّرون هذا السد، وعليهم أن يفعلوا شيئا، كان ينبغي عليهم إيقافه قبل وقت طويل من بدايته.

هذه الأزمة المستمرة بين أثيوبيا ومصر والسودان، من المرجح أن لا تجد حلاً لها في القريب العاجل، بعدما تعثرت أحدث جولة مفاوضات بين هذه الدول برعاية افريقية لدراسة الملفات الفنية والقانونية المتعلقة بهذه الأزمة، من دون ان تحقق أي تقدم ملموس، وقرروا إعادة الملف للاتحاد الإفريقي ليبقى السؤال إذا ما إستمر التعثر سيد الموقف:” ما الخيارات التي سيكون أمامها هذا الإتحاد؟”.

أزمة سد النهضة في تفاقم مستمر

سمة التأجيل والتعثر؛ التي حصلت لم تكن للمرة الأولى  وبالطبع لن تكون الأخيرة أقله على المدى القريب، فالملفات حتى الآن ترحل من جولة مفاوضات إلى أخرى، وأبرز هذه الملفات عملية تعبئة السد وتشغيله، ففي وقت تتمسك القاهرة بإتفاق ملزم في قواعد الملء والتشغيل وتتهم أثيوبيا بالتنصل من إلتزاماتها وتحديداً “إتفاق إعلان المبادىء”؛ الذي وقعته الدول الثلاثة مصر والسودان وإثيوبيا في  الخرطوم في 23 مارس/آذار عام 2015.

وتنص المادة الخامسة منه على “وجوب الاتفاق بين هذه الدول على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة قبل البدء في الملء”، ويفرض على أديس أبابا “التقيد بمجموعة من الإجراءات؛ التي تحول من دون إلحاق الضرر بدول مصب نهر النيل”.

أما أثيوبيا فترغب بصوغ إتفاق تصفه بالاسترشادي (وليس إلزامي)؛ بمعنى إتفاق تتفادى فيه التقيد بالإلتزامات مع القاهرة والخرطوم ، ومن هنا يبرز السؤال ما مدى نجاح الدول الثلاث في دمج اقتراحاتها في مقترح واحد يقدم إلى الإتحاد الافريقي للإطلاع والبناء عليه للخروج بصيغة حل موحدة ؟ وهل ستبقى “هوة إنعدام الثقة” بين عواصم الدول الثلاث على حالها؟.

وإذا كانت المیاه تساوي الحیاة، فإن نهر النیل هو حیاة مصر وسر وجودها، ومن هنـا جـاءت عبارة هیردوت الشهیرة “مصر هبة النیل”، فالنیل بالفعل هو الحبل السري لحیاة مصر والمصریین، وخير دليل على ذلك هو تجمعهم حول شريطه الضيق المعروف بالوادي وبالدلتا؛ التي تمثل 4%  من مساحة مصر الكلية، بينما 96% من مساحة مصر صحراء غير مأهولة بالسكان مما يصعب معه تخيل مصر بدون النيل. وتبلغ الحصة السنوية لمصر من مياه هذا النهر 55 مليار متر مكعب، بينما يحصل السودان على 18.5 مليار.

مفاوضات متعثرة وتعنت أثيوبي

في مقاربة يقدمها الباحث والدكتور في مركز السودان للبحوث والدراسات الإستراتيجية ناصر السر ناصر محمد، يتبين أن السد هو عبارة عن مشروع مائي لتوليد الطاقة الكهربائية، شرعت به أثيوبيا ضمن خطتها المستقبلية، بهدف الإستفادة من مواردها المائية لتوليد الطاقة والتنمية الزراعية، لكنه ووجه بإعتراضاتٍ وإحتجاجاتٍ مصرية وسودانية بحجة التهديد؛ الذي يشكله لأمنهما المائي، والأخطار الكبيرة؛ التي تترتب عليه تجاههما، علماً أن هذين البلدين يأويان أكثر من 40% من سكان الوطن العربي.

وتعكس الدراسة؛ التي نشرها في المجلة العربية للدراسات الأمنية وحملت عنوان “سد النهضة : وضعه القانوني وأثره على الأمن القومي في حوض النيل”، ونشرت في المجلد 33 -العدد 70 ، الرياض 2017، تمسك مصر بما تُسميه حقوقها التاريخية المكتسبة، كما وبالإتفاقيات السابقة؛ التي تُلزم أثيوبيا بعدم إقامة مثل هذه المشاريع إلا بموافقة مصر، موقف قابله عدم إعتراف أثيوبي بهذه الحجج .

بالعودة إلى الجولات السابقة للمفاوضات، فقد شهدت هذه الأزمة الكثير من الجولات، تخللها الكثير من النكسات والانقطاعات، إلا أن جميعها  وصلت إلى طريق مسدود، وبعد وصول الملف الى مجلس الأمن إنتهت الجلسة المخصصة للبحث فيه في 30 حزيران / يونيو 2020  إلى دعوات من الدول الأعضاء لاستئناف الحوار- لا أكثر- وهو ما طالب به الجانب المصري في أي حال.

هذه الدعوة الى الحوار لم تلق آذانا أثيوبية صاغية، والدليل هو إعلان  وزير المياه الإثيوبي بدء ملء سد النهضة، حسبما أعلن التليفزيون الرسمي الإثيوبي في 15 تموز/ يوليو 2020 من دون موافقة مصر والسودان، ليقابله الموقف المصري بأن  الرد “سيكون سياسيا”، مع مطالبة القاهرة الحكومة الإثيوبية ب”إيضاح عاجل”، فيما رفض السودان أي إجراء أحادي بخصوص السد؛ وما هي الا ايام قليلة حتى أوردت وسائل الإعلام الرسمية في اثيوبيا نفياً لخبر المباشرة بملء السد .

(يليه الجزء الثاني)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى