ثقافة وفنون

“ناس من ورق” في كندا.. النقد السياسي الحيّ للرحابنة

بقلم دارين حوماني

سترافقنا فيروز في أحد مساءات كندا الباردة، قبل أيام من عيد ميلاد هذا الصوت غير القابل للقياس وللوصف، هو الوطن نفسه بديلًا عن الحروب المتعددة في بلادنا.. كل عمل للأخوين رحباني هو صورة مصغّرة عن الوطن، هما الماضي العذب الذي بقي لنا، زمن لبنان الحقيقي في الوقت الذي لم يعد للبنان تاريخ غير تاريخ الأسى.. “ناس من ورق” المسرحية الغنائية من ريبرتوار الأخوين رحباني عُرضت على خشبة مسرح البيكاديللي في الحمرا ببيروت عام 1972، استعادتها المخرجة اللبنانية ماري تيريز سلهب بعرضين على مسرح مارسلان شامبانيا  Marcellin- Champagnat  في لافال- مونتريال في كندا مع 21 ممثلًا(ة) و13 راقصًا (ة) من الفريق المسرحي الغنائي الثقافي RITM الذي يجمع مجموعة من المواهب الشابة في كندا ويستقي أعماله ونشاطاته من مسرح الرحابنة لينقل التراث اللبناني وثقافته وفنه إلى الأجيال الجديدة مضيفًا الكثير من النوستالجيا لنا والكثير من لبنان إلى دواخلنا ليجّرنا من جديد إليه ونحن نصغي إلى ذلك الصوت الفيروزي مع نصوص الرحابنة الحية والقابلة للنسخ عن كل زمان ومكان.

وكانت المسرحية قد عُرضت في دمشق عام 1971 خلال الدورة الثامنة لمعرض دمشق الدولي وفي كندا وأميركا بنسخة مختلفة قليلًا عن نسخة البيكاديللي التي كانت لاذعة بانتقاداتها وأكثر كثافة.

ملصقات الإعلان عن المسرحية عند عرضها لأول مرة في بيروت ودمشق وكندا وأميركا (1971-1972)

وماري تيريز سلهب بدأت عملها في الإخراج كمساعدة مخرج وملاحظة سيناريو عام 1976 مع المخرج أنطوان ريمي في مسلسل “حياتي” وفي “المعلمة والأستاذ” و”لا تقولي وداعًا” و”الكوخ القديم”، ومع المخرج إلياس رزق في مسلسل “الدنيا هيك” و”ست الحبايب يا بابا” و”إبراهيم أفندي”، ومع باسم نصر في “بربر آغا” وغيرها من الأعمال في ما يزيد عن عشرين عملًا من تلك الأعمال التي طبعت ذاكرة اللبنانيين الذهبية. كما عملت مع فرق فنية وسينمائية من لبنان والخليج والسويد وأميركا. هاجرت سلهب إلى كندا منذ ثلاثين عامًا، وفي كندا عملت في مجال الإخراج في برامج مخصصة للإثنيات، لكنها تركت الإخراج بعد ذلك لسنوات حتى عام 2014 حين قررت أن تعود إليه من خلال العمل على ريبرتوار مسرح الرحابنة، ربما يكون ذلك انعكاسًا لتوقها إلى ذلك اللبنان القديم، ولأنها تدرك أهمية أن يتعرّف الجيل الجديد إلى هذه الأعمال. بدأت ماري تيريز سلهب مع مسرحية “المحطة” (1973) عام 2014 ثم مع “جبال الصوان” (1969) عام 2018 والآن تقدّم هذا العمل “ناس من ورق”، الذي يحاكي حاضرنا كما يحاكي ماضينا حين كان عاصي ومنصور يدينان الطبقة السياسية على طريقتهما في النقد المجتمعي عبر كتابة فنية مربوطة بالموج مع أغانٍ وموسيقى من ذلك العالم الذي يكاد يصير مفقودًا.

في اتصال معها تقول المخرجة سلهب: “هدفي من التركيز على عمل الرحابنة أن نعرض تراثنا الثقافي لأجيالنا الشابة خصوصًا المولودة هنا في الاغتراب والتي لم تعرف فيروز ونصري شمس الدين وغيرهما، وأعمال الرحابنة والعمالقة يجب أن لا تُنسى لأنها ترتبط بكل مكان وزمان، ومسرحية ’ناس من ورق’ هي جزء من واقعنا الحالي، وهؤلاء الشباب في الفرقة يعملون من قلبهم لأجل إحياء هذا الأعمال وعندما أرى حماسهم الذي لا يُصدّق يكبر قلبي بالفرح، أعطوا من وقت دراستهم ووظائفهم من أجل المسرحية”. وعن الديكور تقول سلهب: “هذه الأيام كل عمل مسرحي يحتاج إلى ديكور وإضاءة ومؤثرات، ولكن العرض كان ليومين فقط وكان من الصعب تأمين ميزانية لمصمم ديكور قد تزيد عن قدرتنا”.

المخرجة ماري تيريز سلهب والفريق الغنائي RITM

ألقى المطران ميلاد الجاويش في بداية عرض المسرحية كلمة مؤثرة قال فيها إنك إذا أردتَ للبناني أن ينسى لبنان فلا تسمح له بسماع فيروز..

وقد تخلّلت العرض إضافات للمخرجة من المؤثرات البصرية على خلفية المسرح مع الرقص الحي وسكتشات من واقعنا الحالي، منها: “ما بغني ولا بمليون ليرة” (النص الأساسي)، لتقول المهرّجة (الأداء الأساسي: جورجيت صايغ، الأداء الحالي: ماري تنوري) في المسرحية: “مليون ليرة كانوا يشتروا بيت هللأ ما بيشتروا قنينة زيت”. كما قدّمت فرقة RITM سكتش “عبود وليلى” وسكتش “يا وردة” من مسرحية “المحطة”.

بعد نصف قرن

مع ديكور بسيط لا يؤثر على روعة العمل، مؤلف من أربع خِيم على زاويتي الخشبة وطاولة صغيرة مع كرسي ومقعد دون أي خلفية تبدأ المسرحية التي تدور أحداثها بقالب اجتماعي سياسي، مع “ماريا” (الأداء الأساسي فيروز/ الأداء الحالي: مها لحود) التي تصل وفرقتها الغنائية إلى إحدى القرى لإقامة حفلة حيث سيتواجد أحد المرشحين للانتخابات النيابية “ضاهر البندر” مع رجاله، ويتحضّرون لمهرجان انتخابي خطابي يعمل على تنظيمه “ديب المرجان” (الأداء الأساسي: وليام حسواني/ الأداء الحالي: إيلي الزين) الذي سيخبر ماريا عن انزعاج المرشح ضاهر منهم وسيعمل على طرد ماريا وفرقتها فيطلب منها أن يرحلوا كي لا يتسبّب تواجدهم بتشتيت الناخبين معتبرًا أن تواجدهم سيكون له آثار سلبية على عدد المتواجدين لحضور خطاب المرشح ضاهر، لأنهم سيقررون بالتأكيد اختيار حضور الحفل الغنائي. مشاهد متتالية تنطوي على رؤية الرحابنة للواقع من خلال بث رسائل نقدية متتالية بحسّ كوميدي ساخر، “ديب: صار إلو يومين مسكّر على حالو ومعو 3 معلمين مدرسة هوي بيحكي وهني بيلمّوا من خلفو أفكار/ ماريا: ليش هوي مش متعلم/ ديب: أهم من المتعلم هيدا ما ضيّع وقتو بالمدارس، من صغرو بلّش بالمظاهرات”، ثم تتابع ماريا: “الله ياخد بإيدو بس نحنا بشو أزعجناه/ ديب: الناس ناطرين خطابو وإنتو قاعدين تطبلوا وتزمروا، مهرجانين بذات الوقت ما بيصير/ ماريا: ما دام الناس ناطرين خطابو رح يروحوا يسمعوه/ ديب: إي بس فيه كتير قلال العقل رح يجوا لعندكن/ ماريا: عال إنتو خدوا كبار العقل ونحنا مناخد قلال العقل/ ديب: ما هون الضربة مين بيضل يسمع الخطاب”.. وفي رسالة تالية أيضًا في نفس المشهد تقول ماريا إنها ستوقف الحفل ساعة لحين إنهاء المرشح خطابه فيجيبها ديب أن بقية أعضاء اللائحة كلهم سيلقون خطابات في الحفل، فتسأل ماريا “كلن بدن يحكوا؟”، فيجيبها ديب: “معلوم ما اليوم أيام الحكي، بكرة لما بيصيروا بالمجلس ما بيعودوا يحكوا”..

مشاهد من المسرحية 

هذه المشاهد هي من سلسلة مشهديات ساخرة عن العمل الانتخابي، نحن أمام نص يتصاعد من لوحة لأخرى دون أن يتوقف، كل مشهد هو جزء من هويتنا، من حمولتنا الزائدة من الفوضى في هذا العالم، كأننا أمام بورتريهات عنا معلّقة في الهواء في فضاء العتمة مثل شموع آخر الليل. نحن نحكي هنا عن أخوين رحبانيين كأنهما يقفان على برج مراقبة فوق المدينة يحدّثاننا عن السياسة وأكاذيبها، عن الناس وحبهم للفرح، نحن أمام كسر للزمن، خلق وعي من مكان آخر كأن الرحابنة كانوا فقط يدفعون الناس لينتبهوا لأحوال بلدهم، سيحكون لنا في هذا العمل عن ضعف وعدم إمكانية رجال الأمن لمواجهة رجال السياسة، وعن رجل الأمن “صابغ وجّو بالنظام” وتسأل: “ليش النظام صباغ” ليجيبها “صباغ وكوي”، و”الناس للي انوعدت بالمهرجان.. ما ع قلبن شر صاروا معوّدين ينوعدوا وينضحك عليهن”.. “وإذا بدك تجوّزني عجّل قبل ما أوعى، للي بدو يتزوج، يتزوج هوي وسكران..”. “ليش الموتى بينتخبوا.. إي شو مفكر، ما ثلاث أرباع للي عم ينتخبوا موتى”.. وماريا تخاطب رفيق طفولتها شكور “وين بدك تلحقنا نحنا ناس من ورق يمكن للي كتب، كتب إنو ما نتلاقى يمكن من بعيد أحلى وأصفى هيك بيضل فيه مسافة تضرب فيها الشمس”.. وماريا تخاطب ديب: “منعوّض عليك بغنية/ ديب: إنتو ممثلين كلامكن كذب/ ماريا: ليش كلام الخطابات شو؟!”.. وبين هذه الحوارات سنستمع إلى أكثر من عشرين عملًا غنائيًا ومواويل وموشحات مع مشهديات من رقص الدبكة والرقص المعاصر الذي أضافته المخرجة، بأصوات فيروز وهدى ونصري شمس الدين وجوزيف ناصيف على طريقة بلاي باك playback، طريقة كان لا بد منها أمام جلالة هذه الأصوات..

لن ينجح ديب المرجان بطرد ماريا وفرقتها، ويطلب من ماريا تعديل برنامج حفلتها وتغني للمرشح مقابل مبلغ كبير من المال فتشعر بالإهانة وترفض أن تغني لأي شخص. لم ييأس ديب، وقام بدفع المال لأحد أعضاء فرقة ماريا وطلب منه سرقة ثياب الفرقة، وهكذا سيمنعهم من تقديم العرض، لكن مكيدته كشفتها نسّوم (الأداء الأساسي هدى/ الأداء الحالي ألكسندرا نهرا) مغنية أخرى في الفرقة، التي ستقبض على اللص في أثناء إخفائه الثياب وهكذا تبوء العملية بالفشل. تروق فكرة الترشح للانتخابات لمدير الفرقة ليكون على لائحة المرشح ضاهر مقابل إيقاف الحفلة، لكن ديب يرفض ذلك. وفي المقابل، تعمل ماريا على إقناع ديب بالانضمام إليهم بدلًا من أي يكون مجرد مساعد لهذا السياسي “إنت بتحمللو الكرسي وهوي بيقعد عليها.. عل المسرح كللو موجود، إذا طالع ع بالك تبيع الوطن بتبيعو بس الفرق بالحقيقة ما بكون انباع.. إذا بدك تظلم بتظلم بس بالحقيقة ما بتكون ظلمت ورغم هيك الكلمة عل المسرح بتوصل عل القلب بتهدر وبتغيّر”.. ثم تضيف: “صار فيك تكون أكبر من ضاهر تكون نائب معنا بالفرقة، هون تمثيل وهونيك تمثيل، بس إذا كنت بالمجلس النيابي بدك تدفع ليزأفولك هون هني بيدفعوا وبيزأفوا”.. يبدأ المرشح ضاهر بالخطاب، ومع كل عبارة يوجهها للناس يرد ديب عليه، “ضاهر: وإني أطلب تحقيقًا صريحًا بالقضايا الغامضة/ ديب: “ولك يا سيدنا بلشت تخبص، بالتحقيق بتنكشف إنت.. “.. ثم يعدّد ديب أعمال ضاهر من الكذب إلى العنف والسرقة مع كل عبارة يوجّهها المرشح ضاهر للناس لينتهي العمل بتخلي ديب عن العمل مع ضاهر بسبب أكاذيبه الانتخابية.

مشاهد من المسرحية

خلال جولتها في كندا وأميركا عام 1971 غنّت فيروز من هذه المسرحية، وكتب الشاعر الراحل سركون بولص الذي كان يقيم في أميركا: “خلال صوتها غير العادي، بعمقه وتأثيره غير المألوفين، استطاعت فيروز لأول مرة اختراق الوحدة والعزلة التي تغلّف عقل الإنسان العربي وأن تخفّف المعاناة والكدر التي ألفى العرب اليوم أنفسهم فيه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هذا الصوت العجيب مع باقة من أفضل الألحان والنغمات خلق الهارموني المتناسق الذي كنا نفتقده جميعًا”.

“ناس من ورق” في كندا اليوم، بعد نصف قرن من إطلاقها لأول مرة، لا تزال مثل جرعة من الحب والفرح، مثل هارموني متناسق نحتاجه في يومياتنا كلها بحروبها الكثيرة وبخشونتها وكتلها السديمية.. مع ارتفاع حاد في “عدّاد” الحنين إلى الوطن.

المصدر العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى