إقتصاد
100 مليار دولار احتياطي العراق والدينار يعاني.. لماذا؟
يتواصل مسلسل الانخفاض المستمر في سعر الدينار العراقي أمام الدولار الأميركي، الأمر الذي يقود إلى حالة من السخط الشعبي، لا سيما مع الزيادات الكبيرة في أسعار السلع والخدمات بالبلد، على الرغم من ارتفاع الاحتياطي النقدي من العملة الأجنبية لدى البنك المركزي إلى نحو 100 مليار دولار.
فيما لم يفلح قرار إقالة محافظ البنك المركزي العراقي أخيراً في تهدئة المخاوف الشعبية جراء تفاقم أزمة الدولار وانعكاساتها واسعة المدى على الأسواق، لا سيما مع فقدان العملة العراقية نحو 10 بالمئة من قيمتها، ليصل سعر الدولار إلى أكثر من 1600 دينار، وفي ظل ارتباطات المشهد الحالي بفرض الاحتياطي الفيدرالي الأميركي منصة تتبع آلية بيع الدولار.
المظاهرات التي نظمها عراقيون أمام البنك المركزي أخيراً عبّرت عن حالة القلق التي يعيشها المواطنون، وارتفاع حدة المخاوف الشعبية جراء تفاقم الأزمة برغم المؤشرات المطمئنة نسبياً للاقتصاد العراقي.
هذا ما يؤكده أستاذ الاقتصاد بجامعة البصرة، نبيل المرسومي، والذي يقول في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن ثمة مفارقات كبيرة بالمشهد الاقتصادي في العراق، في وقت حقق فيه البلد خلال العام 2022 إيرادات مالية هي الأعلى، تزيد على 115 مليار دولار، كما حقق البنك المركزي احتياطات نقدية بأكثر من 100 مليار دولار.
ومع هذا الوضع، إلا أنه “على ما يبدو أن العام 2023 سيكون صعباً على العراقيين، لا سيما بعد أن بدأت السنة بتفاقم أزمة الدينار، والتراجع الكبير في سعر العملة العراقية مقابل الدولار بحدود 10 بالمئة (..) وهذا ما انعكس بشكل كبير على أسعار السلع وتفاقم معدلات التضخم وإلحاق الضرر بأصحاب الدخول الثابتة.. كما يبدو أن مشكلة تداعيات سعر الصرف لن تُحل قريباً، وقد تصاحبها أبعاد سياسية”، طبقاً للمرسومي.
من أين بدأت الأزمة؟
ويتحدث الخبير الاقتصادي العراقي عن تفاصيل الأزمة الحالية، وكيف بدأت، على النحو التالي:
* بدأت الأزمة مع تطبيق الفيدرالي الأميركي ربط البنك المركزي العراقي بالمنصة الإلكترونية من خلال نظام سويفت لتتبع الحوالات، لملاحقة حركة الدولار والتأكد من عدم ذهابه إلى دول “معادية” للولايات المتحدة أو خاضعة للعقوبات.
* قواعد الامتثال الجديدة التي تم وضعها بها كثير من القيود والضوابط التي تتطلب معلومات تفصيلية عن الجهة المستفيدة ونوع البضائع المستوردة وكمياتها، وكشف حساب إبراء الذمة من الدوائر الجمركية والضريبية، وهي إجراءات لم يعتد عليها المستورد العراقي، الأمر الذي أدى إلى انخفاض ملحوظ في مبيعات المركزي من العملة.
* صعوبة الاستيراد عن طريق الحوالات في ظل القيود الدولية المرتبطة بالبنك الفيدرالي الأميركي أجبرت بعض التجار على الاستيراد من خلال حوالات مكاتب الصيرفة، خلافاً لقوانين البنك المركزي، ما أدى إلى زيادة الطلب على الدولار ومن ثم ارتفاع سعره.
ويوضح المرسومي أن البنك المركزي كان يبيع يومياً حوالي 250 مليون دولار، وأصبحت مبيعاته حالياً في حدود من 60 إلى 80 مليون دولار، معظمها نقدية، مشيراً إلى أن نسبة 90 بالمئة تقريباً من واردات العراق كانت تمول عن طريق الحوالات المصرفية، وكانت تلك الحوالات تشكل حوالي 90 بالمئة من مبيعات المركزي، بينما المبيعات النقدية تشكل 10 بالمئة، فيما يحدث الآن العكس تماماً.
ويشير الخبير الاقتصادي العراقي إلى أن “الأزمة ليست أزمة في المعروض النقدي من الدولار، إنما هي أزمة حوالات أو ما يسمى بدولار الاستيراد”، لافتاً النظر إلى أن تلك المشكلة أدت ضمن تداعياتها إلى إعفاء محافظ البنك المركزي مصطفى غالب مخيف، وتعيين محسن العلاق “لكن على الرغم من ذلك فإن الأزمة مرشحة للاستمرار، باعتبار أن إجراءات الحكومة تحتاج لوقت لا يقل عن ستة أشهر لكي تأتي بنتائج مرجوة”.
تتمثل تلك الإجراءات المطلوبة في تقدير المرسومي في “التكيف مع المنصة الإلكترونية، وربما سيتم الاتفاق مع الولايات المتحدة الأميركية على تأجيل عمل المنصة لبضعة أشهر لحين استكمال الاستعدادات الفنية للمصارف العراقية”.
الرئيس العراقي يكشف لسكاي نيوز عربية عن أسباب خسائر الدينار
هل الفيدرالي الأميركي هو المسؤول؟
وبينما يُلقي الكثير من العراقيين بمسؤولية المشهد الراهن على عاتق الفيدرالي الأميركي في ضوء إقرار امتثال النظام المصرفي العراقي للوائح الدولية الخاصة بنظام “سويفت” لتحويل الأموال، يرى مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، الدكتور غازي فيصل، أن مسألة انخفاض سعر الدينار ترتبط بشكل أساسي بالسياسات النقدية للحكومة، ولا ترتبط بسياسات وقرارات الفيدرالي الأميركي.
ويشير إلى أنه من حق الولايات المتحدة الأميركية المحافظة على الدولار ومتابعة مساراته على الصعيد الدولي ومنع وصوله إلى الدول التي تخضع للعقوبات الأميركية المختلفة، وفي ضوء ما يشكله ذلك من مشكلة سياسية واستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة.
ويلفت فيصل في الوقت نفسه إلى أن أزمة الدينار العراقي الحالية ترجع إلى عدة عوامل؛ أهمها السوق الموازية للدولار، مع تهريب الدولار إلى عديد من البلدان، من بينها سوريا ولبنان وتركيا، وإيران بشكل خاص التي تعاني تحت وطأة الحصار الاقتصادي، وتستغل هذه الفرصة من أجل الحصول على مليارات الدولارات.
ويتابع مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية: “تنظيمات السوق الموازية، والكتائب المسلحة والشركات والبنوك الوهمية وكذلك العقود الوهمية.. كل هذا أسهم بشكل خطير في تهريب مليارات الدولارات خارج العراق”، مشدداً على أهمية وجود رقابة جادة على حركة الدولار من جانب البنك المركزي العراقي.
عمليات بيع العملة
من جانبه، يعزي رئيس مركز الأمصار للدراسات، المحلل العراقي الدكتور رائد العزاوي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أزمة العملة العراقية حالياً إلى عدة عوامل، من بينها “بيع العراق لما يحصل عليه من عائدات دولارية من إيرادات النفط”، مشدداً على أن عمليات البيع تأتي بشكل عشوائي، كل هذا دفع الفيدرالي الأميركي إلى تقنين عمليات بيع العملة الدولارية داخل العراق لأية جهة أخرى.
ويشير إلى أن “هناك مشكلة حقيقية تتمثل في أن كثيراً من تلك الأموال (مليارات الدولارات) سربت إلى خارج العراق، سواء إلى إيران وتركيا أو غيرهما، بسبب مصالح بعض القوى السياسية (..) بينما عمل الفيدرالي الأميركي لوضع حد لعملية الحوالات المالية، وهذا أدى لمضاربات في العملة التي صار لها أكثر من سعر داخل العراق، ما أوجد مشكلة حقيقية في سعر الصرف”.
وأضاف أن “الوضع الاقتصادي في العراق مستقر، حيث حقق العراق أرقاماً جيدة، ولدينا احتياطي نقدي يصل إلى 100 مليار دولار نستطيع من خلاله الاستفادة من هذه الأموال بغرض دعم الاقتصاد (..) لكن لدينا مشاكل أخرى منها تحكم بعض القوى السياسية في تحريك الاقتصاد، في وقت يحاول فيه رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، إخراج البلد من هذه المشكلة بالبحث عن مخارج أخرى لدعم الاقتصاد، ولهذا هو يزور فرنسا على سبيل المثال الآن في محاولة لإيجاد شركات كبرى تساعده في تنمية الوضع الاقتصادي وجذب الاستثمارات”.
وأشار العزاوي إلى سعي رئيس الوزراء أيضاً إلى إيجاد شركاء داخل المنظومة العربية، وهناك ربط اقتصادي مع مصر والأردن ودول الخليج، بما يسهم في تعزيز الوضع الاقتصادي بينما “مسألة المضاربات وتهريب العملة خارج العراق تضعط على سعر صرف الدولار وتُبقي الأزمة، إلى جانب العقوبات التي فرضت من قبل الفيدرالي الأميركي على بعض الشخصيات”.
* 10 بالمئة تراجعاً بسعر الدينار العراقي مقابل الدولار منذ نوفمبر الماضي.
* 100 مليار دولار تقريباً حجم الاحتياطي النقدي من العملة الأجنبية في العراق.
* 53 بالمئة نمواً في الصادرات العراقية من النفط في 2022 (بلغت 115.6 مليار دولار).
* 8.9 بالمئة النمو الاقتصادي في 2022، وتشير التقديرات إلى نمو بنسبة 3.8 بالمئة في 2023.
* 4.1 بالمئة معدل التضخم المتوقع.. و13.6 بالمئة نسبة البطالة خلال العام الجاري.
ما سبب انخفاض الدينار العراقي رغم زيادة الاحتياطي النقدي؟
ارتباك واسع يقود لتضخم الأسعار
الباحث الاقتصادي العراقي، نبيل التميمي، يشير في تصريحات خاصة لموقع “سكاي نيوز عربية”، إلى أنه “خلال العشرين عاماً الماضية كانت تُجرى عمليات التجارة المحلية في العراق بطريقة بدائية، من خلال صغار التجار الذين يلجأون إلى مكاتب الحوالات، التي تجمع الحوالات ثم تقدمها للمصارف الخاصة داخل العراق، ومن ثم إجراء عمليات تحويل بفواتير وهمية لا تعكس الطلبات الحقيقية للاستيراد”، موضحاً أن هذه العملية تُمرر داخلها الكثير من عمليات غسيل الأموال أو تهريب العملة الصعبة.
ويشدد على أن المستفيد من هذه الآلية هي مصارف محدودة، تستفيد من فرق السعر بين السعر الرسمي وأسعار السوق الموازية.
وأمام تشخيص قضايا مماثلة تُمرر من خلالها عمليات غسيل الأموال، إضافة إلى التهرب من العقوبات بالنسبة لبعض الدول المستفيدة من تحويل الأموال من العراق، فرض الفيدرالي الأميركي تعديلات على إجراءات الحوالات العراقية، من خلال نظام سويفت، للتدقيق في مصدر الأموال، بما يضع شروطاً مختلفة، من بينها أن يتقدم التاجر بنفسه بطلب الحوالة عبر تقديم مستندات تثبت إجراءات التجارة المختلفة، وحدد موعداً بنهاية 2022 لبدء هذه الإجراءات.
ويشير إلى أن “المسؤولون في العراق، وعلى رأسهم البنك المركزي لم يهيئوا الأجواء، ولم يُكيفوا وضع التجار مع تلك الإجراءات الجديدة، ولم يكن هناك أي استعداد مسبق لمثل تلك الخطوة التي أربكت المشهد بالكامل، وبالتالي حدث الارتباك الحالي، لا سيما وأن التجار أغلبهم كانوا يتعاملون بدون وثائق، كما يخشون التعامل مع مؤسسات الدولة بشكل رسمي، خاصة مع الجمارك والضرائب، في ظل البيروقراطية بالمؤسسات”.
ويتابع: “عزز ذلك الخلل الراهن خلق مسارات موازية للحوالات بعيداً عن المسار الرسمي المرتبط بالمصارف والبنك المركزي العراقي (..) كما ولدت هذه الخطوة طلباً متزايداً على الدولار المحلي داخل الأسواق، وهذا الطلب تسبب في ارتفاع الأسواق مع عدم إمكانية الوصول إلى الدولار الرسمي إلا بالقيود والوثائق المذكورة”.
ويشير الخبير الاقتصادي العراقي في الوقت نفسه إلى أن الدولار ارتفع بحوالي 10 بالمئة، دفع ذلك وفي ظل حالة عدم اليقين الراهنة التجار وبائعي التجزئة إلى نوع من التحوط في عملية طرح الأسعار، ومن ثم تضخمت الأسعار بنسبة أعلى من الـ 10 بالمئة.
وفي سياق هذا المشهد المضطرب، يرى أن البنك المركزي يتعين عليه العمل على إزالة كثير من العقبات وتحفيز التجار لتسهيل مهمتهم في إجراء الحوالات النظامية من خلال الدخول في مسار إجراء الحوالات تحت إشراف النظام المصرفي