إقتصاد
هل “البريكست” السبب في أزمات الاقتصاد البريطاني؟
تعكس التظاهرات التي شهدتها لندن أخيراً للمطالبة بالعودة إلى الاتحاد الأوروبي، تأرجح الرأي العام البريطاني من “البريكست”، بينما تدفع الضغوطات التي يشهدها اقتصاد البلاد الكثيرين إلى إلقاء اللوم على الخروج من الاتحاد، بوصفه “السبب الرئيسي في الأزمات الراهنة التي تعاني منها المملكة المتحدة”.. فما مدى دقة ذلك؟
يختلف المحللون حول ما إذا كان يُمكن إلقاء اللوم على “خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي” كونه المسؤول الأوحد عن المشاكل التي تعاني منها البلاد، لا سيما الضغوطات والأزمات الاقتصادية الراهنة.
ولا يبدو أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيبقى بعيداً عن العناوين الرئيسية. ففي الآونة الأخيرة، برزت هذه المشكلة بفضل وعد زعيم حزب العمال كير ستارمر بالسعي إلى التوصل إلى صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إذا فاز في الانتخابات العامة.وهو أمر يرغب الكثيرون في سماعه بشأن عواقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وفي هذا السياق، نقل تقرير لشبكة “بلومبيرغ”، عن خبيرين قولهما إنه “لا يمكن إلقاء اللوم على انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي في جميع العلل التي تعاني منها البلاد”.
مدير مركز دراسات السياسة، روبرت كولفيل (الذي صوت لصالح بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي)، والخبير الاقتصادي جوليان جيسوب (الذي صوت لصالح خروج المملكة المتحدة)، يتفقان على أنه – على المدى القصير – من الصعب القول بعدم وجود بعض الضرر؛ نظرا للاحتكاك الذي خلقته المملكة المتحدة بينها وبين أحد شركائها التجاريين الرئيسيين.
كما أضاف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى حالة عدم اليقين السياسي في البلاد خلال السنوات القليلة الماضية. لكن الأمر الأقل تأكيداً -على حد قولهما- هو مدى الضرر الذي سببه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يقول كولفيل: “بالطريقة نفسها التي ألقينا من خلالها اللوم على بروكسل في كل شيء قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يلوم الناس خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على كل شيء بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي”.
ولكن لا يوجد الكثير من الأدلة لدعم ذلك، كما يقول الخبيران. وتظهر أحدث الأرقام أن النمو في المملكة المتحدة ليس في أسفل المجموعة، بل في المنتصف. كما أن أرقام التضخم – على الرغم من ارتفاعها – لا تختلف كثيراً أيضا.
ويشار في هذا الصدد إلى أن الاتحاد الأوروبي يعاني من ضيق أسواق العمل وارتفاع أسعار الطاقة بنفس الطريقة التي تعاني منها المملكة المتحدة.
وعلى الرغم من أن الاقتصاد البريطاني ليس في حالة جيدة، إلا أن هذه هي الحال منذ عقود. لذا، بدلاً من إلقاء اللوم على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما يقول جيسوب وكولفيل، تحتاج المملكة المتحدة إلى النظر في سياساتها الخاصة وإخفاقات حكومتها.
حكومة بريطانيا تتراجع عن بعض الإجراءات المتصلة بالمناخ
ونظم مئات البريطانيين، وسط العاصمة لندن، يوم السبت “المسيرة الوطنية لإعادة الانضمام” ملوحين بأعلام الاتحاد الأوروبي، وذلكللمطالبة بعودة بريطانيا إلى التكتل، وذلك بالقرب من حديقة هايد بارك حيث انطلقوا باتجاه ساحة البرلمان بينما أطلق سائقون مؤيدون أبواق سياراتهم.
ورفع المتظاهرون لافتات كتب عليها “طريق الانضمام مجددا للاتحاد الأوروبي تبدأ من هنا” و”انضموا مجددا وابتهجوا”.
وفي يونيو الماضي، أظهرت نتائج استطلاع أجرته شركة “يوجوف”، ارتفاع نسبة البريطانيين الراغبين في العودة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى أعلى مستوى لها منذ العام 2016، بعد مرور 7 سنوات على استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وذلك وفقا لصحيفة الغارديان البريطانية.
أظهر الاستفتاء أن البريطانيين أكثر تفاؤلاً حيال مستقبل الاتحاد، لدرجة أنهم يثقون في المفوضية الأوروبية أكثر من حكومتهم.
58.2 بالمئة من البريطانيين من شأنهم أن يصوِّتوا الآن لإعادة الانضمام إلى الاتحاد، باستثناء أولئك الذين قالوا إنهم لن يُصوتوا أو قالوا إنهم لا يعرفون.
هذه النسبة المئوية ارتفعت بشكل ثابت تقريبا منذ نسبة 47 بالمئة المنخفضة المُسجلة في أعقاب الاستفتاء في مطلع 2021.
“البريكست” لم يحقق المراد منه!
من جانبه، يقول المحلل الاقتصادي بصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، الدكتور أنور القاسم، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن “البريكست” لم يحقق للبريطانيين الوعود التي قطعها رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون ومن بعده ليز تراس، لافتاً إلى أن “الوضع الاقتصادي البريطاني يتراجع بشكل كبير”، كما أن المملكة المتحدة خسرت موقعها بالاقتصاد الدولي مرتين؛ مرة لصالح البرازيل في وقت سابق، ومرة أخرى لصالح مستعمرتها السابقة الهند.
ويضيف: “الوعود كانت بأن بريطانيا بعد خروجها تستطيع أن تسيطر على حدودها ووقف اللاجئين غير الشرعيين الذين يستنزفون الميزانية البريطانية.. لكن هذا كان “كلاماً كاذبا”ً، إذ لم تتوقف موجات الهجرة غير الشرعية بل زادت وتضاعفت، وبالتالي لم يتغير شيءلصالح بريطانيا.. كذلك كان من أسباب الخروج تحسن الوضع الاقتصادي باعتبار أن بريطانيا تدفع الكثير من الأموال لأوروبا وبالتالي المصالح البريطانية -وقطاع الصحة تحديداً- سيكون أفضل حال خرجت لندن من الاتحاد، وهذا لم يحدث الآن، حتى أن القطاع الصحي البريطاني -الذي يعتبر من أهم القطاعات على المستوى الدولي وميزانيته تتجاوز الـ 20 مليار جنيه استرليني سنوياً- تراجع بشكل كبير جداً”.
ويستطرد: “الوضع الاقتصادي قيل إنه سيتحسن بمجرد الخروج باعتبار أن بريطانيا ستوقع اتفاقات اقتصادية واعدة جداً مع دول كثيرة، على رأسها الولايات المتحدة، وبالتالي ستعيد صعودها الإمبراطوري السابق.. لكن المشهد الحالي يقول إن الوضع قد ازداد سوءاً بالفعل، فقد بلغ التضخم سابقاً مستويات هي الأعلى منذ 40 عاماً، كما أن الميزانية العامة للبلاد تعرف عجزاً شهرياً واسعاً (..)”.
بحسب البيانات الرسمية، تباطأ معدل التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في بريطانيا إلى 6.7 بالمئة (وهو الأدنى في 18 شهراً)، مقابل 6.8 بالمئة و7.9 بالمئة، في شهري يوليو ويونيو على التوالي.
وتبعاً لذلك، يتحرك معدل التضخم مبتعدا أكثر عن أعلى مستوى في 41 عاما الذي بلغه في أكتوبر عند 11.1 بالمئة، لكنه لا يزال أعلى من المستوى المستهدف من البنك المركزي البالغ اثنين بالمئة.
أوضاع اقتصادية ضاغطة
ومن بريطانيا، يشير القاسم في معرض حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن الغلاء يزداد بشكل كبير جداً في القطاعات كافة، وهو ما انعكس على الشعب البريطاني الذي وجد نفسه قد ضُلل به، وبالتالي هو يريد الآن بأي شكل كان العودة إلى الاتحاد الأوروبي من جديد “وقد رأينا هذه التظاهرات التي ضمت عشرات الآلاف من القطاعات كافة للمطالبة بالعودة”.
ويلفت القاسم إلى الإضرابات التي يعاني منها الاقتصاد البريطاني، وهي إضرابات تشمل القطاعات كافة في المملكة المتحدة، وتعد الأكبر عبر تاريخ البلاد، للمطالبة بزيادة الرواتب، على اعتبار أن التضخم التهم من 25 إلى 23 بالمئة من الأجور في البلاد، علاوة على أن الجنيه الاسترليني فقط الكثير من قيمته مقابل الدولار الأميركي، وهو ما انعكس سلباً على الاقتصاد البريطاني.. وجميعها أمور تحرك الدعوات المنادية للعودة للاتحاد الأوروبي.
ويختتم حديثه بالإشارة إلى أن كل تلك الأمور، وفي خطٍ متوازٍ مع زيادة الأسعار بالبلاد، شكلت ضغطاً على الحكومة والميزانية، وعلى جيوب المستهلكين في بريطانيا، الذين وجدوا أن وضعهم ساء بشكل كبير جداً، وأن البريكست كان وبالاً عليهم.
وحقق الاقتصاد البريطاني معدلات نمو غير متوقعة في الربع الثاني من العام الجاري 2023، بدعم من الأداء القوي في شهر يونيو، لكنها لا تزال الوحيدة بين أكبر الاقتصادات العالمية التي لم تعد إلى مستويات ما قبل جائحة كوفيد-19.
الناتج المحلي الإجمالي في بريطانيا، نما بنسبة 0.2 بالمئة في الربع الثاني، على أساس فصلي، مقابل 0.1 بالمئة في الربع الأول، وهو ما جاء أفضل من التوقعات ببقاء مستوى النمو دون تغيير.
وعلى أساس سنوي ارتفع معدل نمو الاقتصاد البريطاني في الربع الثاني بنسبة 0.4 بالمئة، مقابل توقعات باستقراره عند مستوياته البالغة 0.2 بالمئة في الربع الأول.
وتجنبت بريطانيا حتى الآن الوقوع في الركود، على عكس منطقة اليورو، لكن البيانات لا تزال تؤكد أداءها الضعيف نسبيا منذ بداية جائحة كورونا.
حركة مُنظمة ونشطة
من لندن، يقول المحلل المختص في الشؤون البريطانية، عضو حزب العمال، مصطفى رجب، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن التظاهرات الحالية هي ليست وليدة اليوم، إنما تعبر عن اتجاه وحركة مُنظمة منذ فترة طويلة من قبل سياسيين، وتعمل بنشاط عبر مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي وتجري اتصالات واسعة لتشجيع البريطانيين للانضمام إليها وتعزيزها.
ويوضح رجب، المشارك ضمن الحركة المذكورة، إن الخروج من الاتحاد الأوروبي كان اتجاهاً خاطئاً، وقد جاء لأسباب سياسية بحتة تماشياً مع طموحات بوريس جونسون، الذي قاد هذه الحركة ونجح فيها، لا سيما وأن الحكومة الموجودة في هذا التوقيت لم تقم بتنظيم حملات مضادة لكونها كانت مُطمئنة من أن الناس سوف يصوتوا للبقاء.
وجرى خلال ولاية رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون التفاوض على اتفاق الخروج “بريكست” الذي دخل حيز التنفيذ في العام 2021، مع تحديد موعد للمراجعة عام 2025.
ويعتقد مراقبون بأن التداعيات الاقتصادية للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي باتت تطفو إلى السطح بشكل لافت في المرحلة الحالية، لا سيما أن ظروف جائحة كورونا في وقت سابق كانت قد غطت نسبياً على تلك التداعيات.
ويتحدث رجب عن التحركات الشعبية والسياسية الداعية إلى العودة للاتحاد الأوروبي، مُبرزاً الأسباب الاقتصادية الرئيسية وراء تفجير تلك المُطالبات، بقوله: “عندما ننظر للوضع الاقتصادي، فإن المملكة المتحدة تأثرت بشكل كبير من الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو ما تشعر به الشركات الكبرى المنتجة التي تتعامل مع الشركات الأوروبية بشكل أساسي، وبما انعكس على مدى توافر البضائع التي كانت تأتي من أوروبا، والقيود التي لحقت بها، وبما أثر على المتاجر وتوافر المواد الأساسية والأدوية وغير ذلك”.
ويتابع: “المواطن نفسه يشعر بأضرار بالغة.. أنا كمواطن كانت لي حرية التحرك في أوروبا، ومع بداية العام سوف أحتاج إلى تأشيرة.. هناك عديد من الحركات التي يتم تقييدها، وهو ما يشجع المواطنين للانضمام إلى الحركة المنادية بالعودة إلى الاتحاد الأوروبي، تحت وطأة التداعيات الاقتصادية للخروج وما فرضه من قيود على البريطانيين”.
ويتوقع رجب أن تنشط الحملة بشكل واسع في المرحلة المقبلة، وأن تزداد قوة من ناحية العدد والتأثير، لا سيما مع انضمام مجموعة من السياسيين إليها بشكل كبير، وبالتالي قد تؤتي بثمارها “لكن ذلك لن يكون قريباً في يوم وليلة.. المسألة تحتاج المزيد من الترتيبات، كما أن الاتحاد الأوروبي من جانبه سوف يضع قيوداً وشروطاً مختلفة للعودة.. الملف شائك، وهناك رغبة شعبية في العودة بعد الأضرار التي بدأت المواطنون يشعرون بها”.
ويظل الاقتصاد البريطاني في الوقت الحالي أقل من مستواه بنسبة 0.2 بالمئة في نهاية 2019، بناء على بيانات الربع الثاني، وذلك مقابل ارتفاعه بنسبة 0.2 بالمئة بالنسبة لألمانيا، و1.7 بالمئة لفرنسا، و2.2 لإيطاليا، و6.2 بالمئة للولايات المتحدة.