بعد أن نجت من غرق سفينة تايتانيك عام 1912، تجاهلت مارغريت براون، أو مولي براون بحسب الاسم الذي اشتهرت به، الحديث عن حظها الجيد، بل قالت ساخرةً: “حظ اعتيادي لآل براون. إننا لا نغرق”.
عندما توفيت في عام 1932، صارت معروفة باسم “مولي براون التي لا تغرق”، وقد حملت هذا اللقب لأسباب وجيهة، وخلدت النجمة الأميركية كاثي بيتس اسمها مرة أخرى في أفلام هوليوود، بالفيلم الأميركي الشهير Titanic عام 1997.
وقبلها تم تصوير حياتها في فيلم موسيقي ومسرحية برودواي مستوحى في الستينيات، من بطولة ديبي رينولدز في دور رشحها لجائزة الأوسكار.
عاشت مولي حياة استثنائية قبل الكارثة وبعدها، إذ كانت ناشطة اجتماعية وفاعلة خير، ومرشحة محتملة لمجلس الشيوخ الأميركي.
بدايات مارغريت براون
قبل أن تبتاع تذكرة درجة أولى على متن السفينة تايتانيك، حظيت مارغريت براون (التي وُلدت باسم مارغريت توبين) ببدايات متواضعة في حياتها. وُلدت لمهاجرَين أيرلنديين في 18 يوليو/تموز 1867، وقضت معظم سنواتها الأولى في مدينة هانيبال بولاية ميسوري، حيث ارتادت المدرسة حتى الـ13 من عمرها.
ثم عملت في مصنع وكانت تحلم بالسفر غرباً، وعندما قرر اثنان من أشقائها الانتقال إلى ولاية كولورادو للعمل في صناعة التعدين، لحقت بهما مارغريت التي كانت تبلغ من العمر آنذاك 18 عاماً، حسب موقع Biography.
كان هذا الانتقال مصيرياً بالنسبة لها، حيث التقت جوزيف براون، وهو عامل مناجم أكبر منها بـ12 عاماً. مع أن جوزيف براون لم يكن لديه الكثير ليقدمه إلى مارغريت، وقعت الفتاة في حبه؛ فتخلت عن أحلامها بالزواج برجل ثري وتزوجت براون في عام 1886.
قالت مارغريت لاحقاً: “قررت أنني سأكون مع رجل فقير أحبه في حال أفضل مما سأكون عليه مع رجل ثري جذبتني إليه أمواله”.
لكن أحلام الثراء التي راودت مارغريت تأجلت فحسب، دون أن تزول.
في عام 1893، عثرت شركة التعدين الخاصة ببراون على الذهب، وبعد مدة وجيزة صار مليونيراً، حسب موقع All That’s Interesting.
انتقل براون ومارغريت وطفلاهما بعد وقت قصير إلى دنفر، عاصمة ولاية كولورادو، حيث ابتاعوا بيتاً كبيراً مقابل 30 ألف دولار (تصل قيمته إلى 900 ألف دولار بأسعار اليوم).
سرعان ما انطلقت مارغريت لتنضم إلى المجتمع الراقي المحلي واتسمت بأنها نشيطة وكريمة، وكان يُطلب منها دائماً قيادة حملات جمع التبرعات. غير أن بعض الأشخاص نظروا إليها بعين الازدراء؛ نظراً إلى أنها حديثة عهد بامتلاك المال.
وبعيداً عن تكبر مجتمع دنفر، دعمت ماغريت حقوق المرأة وحقوق عمال المناجم، وحقوق الأطفال، وحتى الحيوانات.
لكن اهتماماتها تسببت في خلاف بينها وبين زوجها، وفي عام 1909 انفصلت عن جوزيف براون بصورة ودية، لكنه ظل يمدها بالمال. ولما صارت امرأة عزباء وغنية وتبحث عن المغامرة، انطلقت مارغريت براون في رحلة حول العالم عام 1912.
لم يكن لديها أي علمٍ بشأن هذه الرحلة، لكن رحلة عودتها غيّرت حياتها كلياً.
بعد جولة سياحية شملت مصر وإيطاليا وفرنسا، تلقت مارغريت براون أنباء مزعجة تفيد بأن حفيدها مريض، فقطعت رحلتها وحجزت تذكرة درجة أولى على أول سفينة عائدة إلى الولايات المتحدة: آر إم إس تايتانيك.
ولكن بعد 4 أيام فقط من صعودها على متن السفينة من بلدة شيربورغ الفرنسية، وقعت الكارثة باصطدام السفينة تايتانيك بجبل جليدي. وفي الساعات الأخيرة من الليل في 14 أبريل/نيسان 1912، بدأت السفينة في الغرق شمال المحيط الأطلسي.
قالت مارغريت وهي تتذكر وقوع الكارثة: “كنت مستلقية فوق السرير النحاسي، حيث كان يوجد مصباح بجانبه. وكنت غارقة في القراءة ولم أفكر ولو قليلاً في الاصطدام الذي وقع عند نافذتي أعلى رأسي وقذفني على الأرض”، حسب موقع Molly Brown.
وبرغم أن السفينة طلبت من النساء والأطفال أن يركبوا قوارب النجاة، بقيت مارغريت في السفينة. فقد ساعدت الآخرين كي يستطيعوا الفرار من السفينة، إلى أن جاء أحد أفراد طاقم السفينة وحملها رغماً عنها حرفياً ووضعها في قارب النجاة رقم 6.
وحينما كانت في قارب النجاة، ساعدت في التجديف وقيادة ركاب القارب نحو الأمان، واشتبكت بسرعة مع البحار روبرت هيتشنز. برغم أن قارب النجاة كان يحتوي على كثير من المساحات الخالية، رفض هيتشنز العودة لإنقاذ أي ناجين ممن سقطوا في المياه. إذ يُزعم أنه زجرهم قائلاً: “ليست هناك فائدة من العودة، لأنه ليس هناك إلا الكثير من الجثث. إنها حياتنا الآن، وليست حياتهم”.
كذلك، أعرب عن توجسه؛ خشية أن يغرق قاربهم في المحيط.
وبعد أن أحبطها رفض التجديف بالقارب للعودة -لاسيما نظراً إلى أن صراخ الركاب الناجين الذي كان لايزال مسموعاً من بعيد- هددت مارغريت بأن تلقيه من القارب إذا لم ينصت إليها.
صحيحٌ أن قدرة مارغريت على العودة لإنقاذ أي ناجين من المياه كانت أمراً مشكوكاً فيه، لكنها بلا شك استطاعت في نهاية المطاف السيطرة ولو قليلاً على قارب النجاة.
وبينما كان ظلام الليل يخيم أكثر فأكثر، ضغطت مارغريت على هيتشنز ليسمح للنساء في قارب النجاة بأن يجدفن كي يحافظن على دفئهن. ومع أنه كان متردداً، بدأت مارغريت في توزيع المجاديف. وفي مرحلة ما، بدأ البحار يتمتم بحزن حول قلة فرص نجاتهم، فردت عليه مارغريت: “احتفظ بذلك لنفسك إذا كنت تشعر بتلك الطريقة. من أجل هؤلاء النساء وهؤلاء الأطفال، كن رجلاً. لدينا بحر هادئ وفرصة للنضال”.
وبعد بضع ساعات مليئة بالتوتر والتجمد، نجت مارغريت والناجون الآخرون من ركاب تايتانيك بعد أن أنقذتهم السفينة آر إم إس كارباثيا. لكن بطولتها لم تتوقف عند هذا الحد.
ساعدت مارغريت في توزيع البطانيات والمؤن، واستخدمت معرفتها باللغات العديدة للتواصل مع الناجين الذين لم يكونوا يتحدثون الإنجليزية.
وبعد أن أدركت أن الركاب الأفقر فقدوا كل شيء مع غرق السفينة، بدءاً من آبائهم وأزواجهم وانتهاءً بمقتنياتهم الثمينة وإرثهم العائلي، ضغطت مارغريت على الناجين من ركاب الدرجة الأولى كي يتبرعوا بأي شيء يقدرون عليه.
وعندما وصلت السفينة إلى نيويورك سيتي، استطاعت أن تجمع بالفعل 10 آلاف دولار.
إرث امرأة “لا تغرق”
لم تنته قصتها في عام 1912 مع تايتانيك، إذ قضت مارغريت بقية أيامها في البحث عن قضايا جديدة كي تدافع عنها، واستخدمت شهرتها الوطنية الجديدة من أجل الخير.
بعد أن بدأ عمال المناجم في مدينة لدلو بولاية كولورادو إضراباً، شنت شركة كولورادو للوقود والحديد -جنباً إلى جنب مع الحرس الوطني في كولورادو- هجوماً دموياً ضد منفذي الإضراب عام 1914.
ردت مارغريت على ذلك باستخدام شهرتها للتحدث عن حقوق عمال مناجم وللضغط على مالك الشركة جون دافيسون روكفلر؛ من أجل تخفيف حدة موقفه ضد منفذي الإضراب وكذلك تخفيف ممارساته التجارية.
ولفتت بعد ذلك إلى التشابه بين حقوق عمال المناجم وحقوق النساء. وضغطت كذلك من أجل الحصول على حق الاقتراع في إطار “الحقوق من أجل الجميع”.
وفي عام 1914، قبل 6 سنوات من منح النساء الحق في التصويت، بدأت مارغريت حملة شجاعة للترشح في مجلس الشيوخ الأمريكي.
أعلنت مارغريت: “إذ خضت هذه المعركة، فسوف أفوز بها. لن يكون هناك أمور منمقة، ولن تكون سياسات حول اللياقة والاحتشام. بل سوف تكون حملة اعتيادية من نوعية حملات الرجال، أي خطابات انتخابية ووطنية وكل هذه الأمور”.
لكنها خرجت من السباق الانتخابي في بداية الحرب العالمية الأولى. وبدلاً من مواصلة مساعيها للحصول على منصب سياسي، قررت الذهاب إلى فرنسا لإدارة محطة إغاثة.
حصلت مارغريت براون لاحقاً على وسام جوقة الشرف الفرنسي، لخدماتها التي قدمتها أثناء الحرب.
لكن سنواتها اللاحقة لم تخلُ من الكفاح. حزنت مارغريت على وفاة زوجها السابق في عام 1922، وقالت: “لم أقابل قط رجلاً أرق وأكبر وأكثر جدارة من جوزيف براون”. فضلاً عن أنها دخلت في معركة مريرة استمرت لسنوات مع أطفالها حول عقارات زوجها السابق، مما مزق علاقتهم.
ومع ذلك، عاشت سنواتها الأخيرة بالطريقة التي أرادت أن تحياها بها. ففي عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، صارت ممثلة وكانت تظهر دائماً على المسرح في مسرحية L’Aiglon.
توفيت مارغريت براون -أو “مولي براون التي لا تغرق”، وهو الاسم الذي أُطلق عليها بعد وفاتها- بسبب ورم في المخ في 26 أكتوبر/تشرين الأول عام 1932، داخل فندق باربيزون بنيويورك سيتي. وفي حياتها التي استمرت 65 عاماً، شهدت مولي الفقر والثراء والسرور والمأساة الكبيرة. لكنها عاشت كل يوم في حياتها كما لو أنه الأخير.