جاليات

الغراب القائد

أسامة أبو شقرا

يُروى أنَّه كانَ في أحد بِقاع الأرض الجميلة غديرٌ محاطٌ بالأشجار الغضّة المختلفة الأوراق والألوان والأثمار، من جوزٍ وتينٍ وزيتونٍ وصفصافٍ وحورٍ وعلّيق وغيرها، تعشش فيها مجموعاتٌ من الطيور والعصافير الجميلة اللطيفة، التي لم ترفض يومًا استضافة أيٍّ من مثيلاتهن اللواتي كنَّ يقصدن ذاك الغدير من كل حدبٍ وصوب، لتنهل من أمواهه العذبة النقية، وتريحَ جناحيها في ظلِّ أغصان أشجاره الوارف.

وكما كان هذا الغدير قِبلة المتعطشين للاستجمام في ربوعه، كان أيضًا محطَّ أنظار البزاة والعقبان المجاورة، الطامعة بخضرة وثمار أشجاره وعذوبة وصفاء أمواهه. وقد تمكن أحد البزاة يومًا من السيطرة عليه حقبة من الزمن، فبغى فيها وتجبَّر وقتل وهجَّر وأحرق ودمّر. إلى أن استطاعت طيوره وعصافيره أن تنتفض يومًا وتتخلص من سلطان وظلم ذاك البازيّ، وراحت تلملم شَعْثَ بناتها وأخواتها من أصقاع الأرض، اللواتي هجرنَ غديرهن طوعًا أو قسرًا، ولتعيد لغديرها ما افتقده طويلا من استقرارٍ وأمنٍ وحرية.

وفي صباح أحد الأيام، وكانت تلك الطيور والعصافير مجتمعاتٍ فوق أغصان أشجار الغدير تتشاورن في أمورهنَّ، حطَّ غرابٌ على غصن شجرة جوزٍ، يمتدُّ فوق الغدير، وراح يتلفتُ يمينًا ويسارًا، صعودًا ونزولًا، ولما رأى صورته تعكسها مرآة مياه الغدير النقية، تنفَّضَ ونفش ريشه ورفع رأسه عاليًا بقدر امتداد عنقه، وأخذ يُنعم النظر فيما حوله من وجوه بنات جلدته. عرفته تلك الطيور فورًا وراحت تصفق بأجنحتها مرحبةً بعودة ابن بيئتها الذي شرده ذلك البازي الظالم، وقالت: “ها قد عاد إلينا أحد كبارنا، الذي سيكون لنا عونًا لننهض من كبوتنا ولنعيد إلى غديرنا نقاء مائه وصفاء جوّه وإلى أجنحتنا حرية هوائه”.

عاود الغراب تشامخه ناظرًا إلى ما حوله مجيبًا بنعيقٍ غير ذي معنًى. ثم آوى إلى ربوة قريبة من الغدير آمنًا مطمئنًا.

بعد ذلك صارت بعض كبار تلك الطيور تتسابق إلى طلب مودته، ولكنّه كان في كل مرة ينعق بغير معنى. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى بانت طويته وفُهِمَ نعيقه، فإذا به يعلن اليوم صداقته لمن شرَّده بالأمس. وأصبح القاصي والداني يسمع ويفهم نعيقه بمعناه: “إمًا أكون أنا القائد الوحيد لهذا الغدير أو لا أحد غيري، حتى لو نضبت مياهه وماتت أشجاره”.

ولم يزل ينعق تهديدًا ووعيدًا، حتى تسلَّم القيادة عَنوة، فجلس على الكرسي متراخي الأطراف والحواس منذ اللحظة الأولى، مغمضًا عينيه يتمتع بلذة تحقيق حلم العمر، فلم يعد يرَى أنّ ماءَ الغدير قد راحت تنضب، وأشجارَه بدأت تموت، وعصافيرَه لم تعد تجد قوتها فعادت تهاجر زرافاتٍ ووحدانًا، وهو وكأنه يعيش في كوكبٍ آخر.

ويتساءلون عن سحر الكراسي! فإذا كانت الطيور تتهالك في سبيل الوصول إليها، لا فرق عن أي طريق أو بأي وسيلة، فما عساه يفعل ذلك الإنسان الجشِعُ الطمّاعُ المتكالبُ على حطام الدنيا، حتى آخر لحظة من عمره، ومهما بلغ عدد سنواته؟

1- قصّة رمزية من الخيال

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى