ثقافة وفنون

وديع الصافي..ذكرى حنجرة ذهبية صنعت الأغنية اللبنانية (ج1)

زياد سامي عيتاني – إعلامي وباحث في التراث الشعبي.

في 11 تشرين الأول من العام 2013 رحل وأحد من أعمدة بعلبك وسياج لبنان العملاق وديع الصافي، الذي ما أن يذكر إسمه، حتى يذكر لبنان، وكأنهما توأمان…

المفارقة القدرية أن عاماً واحداً فصل بين ولادة لبنان الذي تأسس في عام 1920 وولادة الطفل وديع بشارة فرانسيس في قرية نيحا الجبلية عام 1921. ولعل هذا الفارق الزمني البسيط بين الولادتين كان إشارة لتشابك طويل الأمد بين وديع ولبنان، حتى بات أحد عمالقته وأعلامه.

فالكبير وديع الصافي قامة من قامات الغناء والموسيقى في لبنان والوطن العربي، ا

استطاع على مدار مشواره الفني أن يقدم العديد من الألحان لكبار المطربين والعديد من الأغنيات التي تغنى بها بصوته القوي الذي لا يشبه أي صوت.

شكل حضور وديع الصافي في المشهد الموسيقي والغنائي اللبناني والعربي، عمقاً ونضوجاً محسوساً، وأضاف نوعية على مستوى الأداء الغنائي العذب، المقرون بالصوت القوي المتموج ذي المقامات والخامات البعيدة والعميقة، العالية والمنبسطة، وعلى مستوى الشجا.

•النشأة في عائلة فنية بالفطرة:

ولد وديع فرنسيس المعروف بوديع الصافي في قرية نيحا الشوفية في 1 تشرين الثاني 1921. وهو إبن بشارة يوسف جبرائيل فرنسيس (رقيب في الدرك اللبناني)، والإبن الثاني في ترتيب العائلة المكوّنة من ثمانية أولاد.

عاش طفولة متواضعة غلب عليها طابع الفقر والحرمان.

يقول هو عن أبيه وأمه إنهما كانا فنانين متقنين للأغنية اللبنانية الشعبية، وكانا يغنيان الزجل والعتابا وأبو الزلف، وجاء صوته ليكون مزيجاً من صوتيهما.

وهذا ما جعل شغفه بالموسيقى يسيطر على كل شيء في حياته. فمنذ صغره أحبّ الغناء، وتعلّم العزف على العود، معلّمه الأول كان خاله الدركي نمر شديد العجيل الذي يعشق الطرب، وكان يصطحبه معه للعزف في بعض السهرات، وبعد إنتقال العائلة الى بيروت تولّى المهمة ألكسي اللاذقاني، في حين أن جده هو أستاذه الأول حيث تعلّم منه الميجانا والعتابا.

وقد عُرف الطفل وديع بجمال صوته في سن العاشرة، وغنى لأول مرة في عُمر الثامنة أمام الست نظيرة جنبلاط بطلب من أبيه.

من نيحا إلى بيروت:

لم يمكث وديع طويلاً في قريته، ففي العام 1930، نزحت عائلته إلى بيروت وإنتسب إلى مدرسة “دير المخلص”، فكان المنشد الأوّل في جوقتها ونجمها الكنسي.

لكنه لم يتمكن من متابعة دراسته، حيث توقّف بعد ثلاث سنوات لظروف إضطرته إلى دخول سوق العمل من أجل مساعدة الوالد في إعالة العائلة، فعمل في محل لبيع الألبسة، وآخر لبيع الزيت، كما عمل في محل أحذية وصالون حلاقة، وأشتغل في معمل للقرميد والزجاج.

لكن هذا لم يجعله يفارق فنه، ويقول إنه خلال عمله في دكان بيع الزيت كان أصحابه يخيرونه بين العمل أو الغناء والعزف على عوده الذي لم يفارقه، فكان يختار الثانية.

•تحقيق الحلم والانطلاقة الفنية:

كان لأخيه توفيق الفضل الأكبر في تشجيعه على التقدم بمسابقة للمواهب الشابة في إذاعة الشرق الأدنى في بيروت، ونصحه كثيراً وأصر عليه، لأن وديع كان متردداً وقائلاً: “كيف له أن يشارك وهو ابن الضيعة إلى جانب أبناء بيروت الثقافة والفن”.

وأمام إصرار أخيه، ما كان من وديع الشاب الفتى ذي الـ16 ربيعاً إلا أن تقدم بأغنية من ألحانه في ذلك الوقت، فشكلت تلك المحطة عام 1938، الإنطلاقة الفنية لوديع، حين فاز بالمرتبة الأولى لحناً وغناءً وعزفاً، من بين أربعين متبارياً، في مباراة الإذاعة، عندما غنّى «يا مرسل النغم الحنون» للشاعر (المجهول آنذاك) الأب نعمة اللّه حبيقة. وكانت اللجنة الفاحصة مؤلّفة من ميشال خياط، سليم الحلو، ألبير ديب ومحيي الدين سلام، الذين اتفقوا على اختيار إسم «وديع الصافي» كإسم فني له، نظراً الى صفاء صوته.

•السبعلي يكتب له الأغنية اللبنانية:

بدأت مسيرته الفنية بشق طريق للأغنية اللبنانية، التي كانت ترتسم ملامحها مع بعض المحاولات الخجولة قبل الصافي، عن طريق إبراز هويتها وتركيزها على مواضيع لبنانية وحياتية ومعيشية.

هنا كان للشاعر أسعد السبعلي دور مهم في إعطاء أغنية وديع الصافي هوية مميّزة، وكانت البداية مع “طل الصباح” و”تكتك العصفور” عام 1940، التي أعقبها مجموعة من أجمل ما غناه وديع الصافي.

•الإخفاق في أول زيارة لمصر:

بحلول أربعينيات القرن الماضي كانت لبنان تعاني من الانتداب الفرنسي، فيما كانت مصر قبلة الفنانين العرب، فقرّر وديع أن يجرب حظّه في مصر، وكان ذلك عام 1944 حيث ساعدته وإستقبلته الفنانة نور الهدى.

وفي تلك الرحلة ، كان أول لقاء يجمعه بموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، الذي وصفه حين إستمع إليه: “من غير المعقول أن يملك أحد هكذا صوت”.

لكنه لم يوفّق هناك ولم يمكث طويلا، وعاد أدراجه إلى بيروت ورجع يُحيي الحفلات والسهرات ويرافقه عزفاً الشقيقان عاصي ومنصور الرحباني.

•العصر الذهبي في بيروت:

في النصف الثاني من القرن العشرين لم تعد القاهرة هي مركز تطوير الموسيقى العربية الوحيد، فقد أصبح لها فروع من أهمها النهضة الموسيقية في بيروت، التي قامت على ملحنين عظماء، كان لا بدّ لهم من أصوات عظيمة أيضا مثل وديع الصافي الذي تمنّى الكثيرون التلحين له.

وبدأ وديع يشارك في “الإسكتشات” الغنائية الإذاعية مثل عروس المواسم التي قدّمها مع فيروز وصباح وسعاد هاشم.

ومع أواخر الخمسينيات، بدأ بالعمل مع العديد من الموسيقيين من أجل نهضة الأغنية اللبنانية، إنطلاقًا من أصولها الفولكلورية، من خلال مهرجانات بعلبك التي جمعت فيروز ونصري شمس الدين، والأخوين رحباني وزكي ناصيف، ووليد غلمية، وعفيف رضوان، وتوفيق الباشا، وسامي الصيداوي، وعصام رجّي وغيرهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى