مناسبات

انفجار بيروت في الإعلام الغربي: زخمٌ مؤثّر أم فرصةٌ ضائعة؟

رانيا بو ناصيف صحافية. معدّة ومقدّمة البرنامج الصباحي في إذاعة الشرق الأوسط في كندا.

أجلس لأكتب هذا المقال بثقة العارف بمكوّنات موضوعه والمدرك لهيكلية طرحه. متأكدةٌ أنا من تسلسل الأفكار في ذهني والمنطق الذي أودّ أن أتبعه. كلّ ما في رأسي يدور بالاتجاه الذي اعتدت أن أسلكه منذ تحقيقي الصحافي الأول قبل أكثر من ٢٦ عاماً.

لحظات وأبدأ بترجمة أفكاري طباعةً. بضع كلمات وتقترب أصابعي من   الرقم ”٤“ لتضغط عليه، ومن بعده الحرفين ”آ“ و ”ب“. هناك، تجمّدَت. شُلَّت. لم تعد تطيعني. عصفُ الذكرى في داخلي سيطر على أفكاري ومنطقي وعزيمتي.

خبر عاجل: انفجار هائل يهزّ بيروت“.
أنا المقيمة بالجسد بعيداً عن موطن القلب، اعتدت هذا النوع من التنبيهات على هاتفي. لم تعد ترعبني. لكني في ذاك اليوم المشؤوم، وعبر ذاك التنبيه بالذات، شعرت بتردّدات الانفجار وقد بلغتني في مونتريال لتنخر جسدي بشظاياها وتُدخِل روحي في غيبوبة لم استفق منها لأسابيع.

منذ لحظة ورود ذاك التنبيه، ومع بدء توالي مشاهد النار والدمار والدماء، بدأت تلقائياً بتغطية ما يحدث في لبنان انطلاقاً من واجبي الصحافي. لكني في ذاك الوقت، كنت مجرّد ألةً تُحصي، تَنقل، تُتابع، تُسجّل… آلة من دون مشاعر. يومها اكتشفت أن كلماتي تيتّمت للمرة الثانية في حياتي، وأصبحت كمَنْ يختنق الصراخ في حنجرته وهو يرى كابوساً في نومه.

إذا كنت أنا الموجودة على بعد الآلاف من الأميال، وخلف شاشة صغيرة، أرتجف رعباً وعجزاً، فكيف كان إذن حال زملاء لي رمتهم اللحظات الأولى من الانفجار في أتون الحريق والعويل والفوضى والذعر.

أنا ابنة الحرب، كما يُقال، ومهنتي مارستها تحت القصف وعلى دوي الانفجارات. نقلت مشاهد مرعبة وتعرّضت لضغوط شتّى، لكنّي أشهد أن لا ظرفاً كان بهذه القساوة.

في المقلب الآخر من الكوكب، جلست ذاك الرابع من آب مذهولةً، ممزقّة بين شعوري كمغتربة لا تستطيع الوصول الى أهلها لضمّهم ومساعدتهم، وبين واجبي كصحافية لا تستطيع أن تكون على الأرض لتقوم بأدنى ما تفرضه عليها رسالتها المهنية.
لمن لا يعرفني، أنا معدّة ومقدّمة البرنامج الصباحي في إذاعة الشرق الأوسط في كندا. برنامجي، وكما يدلّ عنوانه، ”كندا إكسبرس“، متخصّص بالسياسة الكندية وبالشؤون المحلية. لم أكسر يوماً هذا الإطار. لكن منذ اللحظات الأولى التي تلت نشر خبر الانفجار وإذاعته على الهواء، أصبحت الرؤية واضحة في أوساط فريق العمل: الفاجعة تخطّت كلّ حدود.

بالإضافة الى التغطية الإخبارية، حوّلنا الأثير الإذاعي الى منبر للجالية اللبنانية، وأجرينا مقابلات أضاءت على جهود الأفراد الذين هبّوا للمساعدة وناشدوا الحكومة الكندية التحرّك للوقوف الى جانب اللبنانيين في مصابهم، كما حاورنا مسؤولين سياسيين ونواب ووزراء كنديين. تابعنا، راقبنا، رفعنا الصوت….. وكان كلّ هذا من أقلّ واجباتنا الإعلامية أمام المصاب الجلل الذي ألمّ بلبنان وأبناء الوطن.

لم نكن الوحيدين في كندا الذين انتقلنا الى ميدان التغطية. شاركَنا هذه الرسالة زملاء كنديون عديدون، من الساحل الى الساحل.
ولا أذكر أنه منذ انتقالي الى كندا، شهدت هذا الزخم في التغطية الكندية لوقائع لبنانية.
بالطبع، يشكّل الكنديون من أصل لبناني أحد الأعمدة الأساسية في المجتمع المحلي ولكن الانفجار والظروف التي رافقته جعلوا الملف اللبناني محورياً. هكذا أصبح اسم بيروت يعود في شكل يومي الى العناوين والصفحات الأولى. أقله في تلك المرحلة.
”المأساة“،”هيروشيما بيروت“،“الكارثة”، ”أبوكاليبس“.. عبارات احتلت العناوين الرئيسية وتواتر استخدامها في وصف الواقعة.
وسرعان ما امتلأت المساحات الإعلامية بالصور والشهادات من المقيمين والمغتربين على حدّ سواء.

مأساة بيروت في الإعلام الغربي

لا جدل على أن المأساة حرّكت الإعلام الغربي وجذبته الى بيروت. وقد تعاطت وسائل الإعلام العالمية مع تداعيات الانفجار باهتمام غير مسبوق. وفي الإجمال، جاءت التغطيات متعاطفة مع اللبنانيين فحملت هواجسهم الى القرّاء والمشاهدين في العالم عبر وفود المراسلين الذين أمّوا أرض العاصمة اللبنانية لرصد ردود فعل المنكوبين ونقل مطالبهم المتعلقة بتحقيق العدالة وإجراء الإصلاحات، كما تابعوا التغريدات والمنشورات على شبكات التواصل الاجتماعي وتواصلوا مع المؤثرين الجدد من فئة الشباب وأعضاء المجتمع المدني.

وكون السلطة الرابعة هي سلطة رقابية أيضاً، استطاع الإعلام الغربي  – البعيد نوعاً ما عن مأزق الإعلام اللبناني الواقع أسير معادلة الاستقطابات والمال السياسي والطائفي -، أن يحقق نوعاً من التوازن في تغطياته التي ركّزت على الديمقراطية وحقوق الانسان. ورأيناه متخلّياً هذه المرة عن النمطية التي اعتادها والتي غالباً ما كانت تقودها التكهّنات والأحكام المسبقة.

لم تتوانَ الوسائل الإعلامية الغربية عن انتقاد ”منظومةً حاكمةً لا حكم للقانون فيها ولا قضاء مستقل“. كذلك عرضت المستور على منابر العالم، وشاركت في الحثّ على ضرورة كشف المسؤولين عن الانفجار ومحاسبتهم.

… والكندي

في جولة على التغطية الأجنبية حينها، يتضحّ أن الانتقاد الأقوى للمنظومة الحاكمة جاء من الصحف الكندية، فإذ أثنى الصحافيّ تيري غلافين في مقالة كتبها في صحيفة “ناشونال بوست” على مشاعر التعاطف التي أبداها كلّ من رئيس الحكومة الكنديّة جوستان ترودو ووزير الخارجيّة آنذاك فرانسوا-فيليب شامبانيه، عاد ليضيف: “كلّ هذا جيد وحسن، طالما أنّ كندا لم تبدأ بضخّ أيّ أموال لعصابة أمراء الحرب والأوليغارشيّين والكْلَبتوقراطيّين (أي الحكّام اللصوص) الذين يديرون الحكم الطائفيّ الذي كرّسه الدستور في لبنان”.
وذهب محلّلون أخرون الى حدّ تشبيه لبنان بفنزويلا.

كذلك، أكّدت مقالات نُشرت في صحف ”مونتريال غازيت“، “لو دوفوار“، ”لا بريس“، ”لو جورنال دو مونتريال“، ”غلوب إند مايل“ وفي المواقع التابعة لهيئة الإذاعة الكندية على ضرورة أن تذهب المساعدات الكندية الواجب توجيهها الى لبنان مباشرةً إلى الصليب الأحمر اللبنانيّ أو المنظّمات غير الحكوميّة الموثوقة. واستندت هذه الوسائل الإعلامية الى مناشدات الجالية اللبنانية التي طالبت المجتمع الدوليّ بعدم تحويل الأموال المخصصة للبنانيّين عبر حكومة “فاسدة وغير كفوءة بشكل جنونيّ تستمرّ في تعذيبهم”.

يُشار الى أن كندا، وفي أعقاب الانفجار مباشرة، قدّمت ما يصل إلى 5 ملايين دولار كندي من المساعدات الإنسانية. كما أعلنت لاحقًا عن مبلغ إضافي قدره 25 مليون دولار كندي، ليصبح المجموع 30 مليون دولار كندي. وبالإضافة الى ما تقدّم، واءمت الحكومة الكندية تبرّعات المواطنين الكنديين الذين رغبوا بمساعدة المتضررين من الانفجار، فأطلقت في 8 آب 2020 صندوق خاص من أجل إغاثة لبنان.

ولكن، رغم استعانة اللبنانيين بالإعلام الغربي من أجل إيصال مطالبهم، شكا صحافيون أجانب كثرة الأخبار المغلوطة التي تمّ تداولها ومحاولات التأثير والتلاعب التي تعرّضوا لها.

اهتمام لم يكتمل

تنوّعت المشاهد والسردية في التغطيات الأجنبية، لكنها سرعان ما وقعت في ثغرةٍ قد تكون أطاحت بكلّ الزخم الذي كنا أملنا أن يكون مؤثراً، ألا وهي غياب الاستدامة.

في الواقع، علّمتني أحداث عام 2020 الكثير عن طبيعة العمل الصحافي الغربي وأيضاً عن طبيعة العمل الإنساني والمساعدات في هذا الجزء من العالم. فقد اتضح لي أن الجمهور الغربي غير قادر على التعامل مع كوارث متعددة في وقت واحد. هو قد يتحّمس للعناوين الرئيسية في أحد الأسابيع، ولكنه، في الأسبوع التالي، سيحوّل اهتمامه الى كارثة أخرى في مكان آخر من العالم.
في عالمنا المعاصر، تكاد تكون فترة تركيزنا معدومة. ومع خدمة “الأخبار العاجلة“ سرعان ما يتم تحويل أفكارنا إلى أماكن متعددة. وتتحول الأزمات الإنسانية إلى “اتجاهات” تسعى وسائل الإعلام الى إظهار “مدى جاذبيتها“ من أجل رفع ”الرايتينغ“ وزيادة مبيعاتها.

ولهذه الطبيعة الجديدة عواقب حقيقية بحيث ينسى العالم بسرعة الواقع الإنساني لأزمات مستمرة. فبعدما استنفد الإعلام بدايةً حماس الغرب للحديث عمّا يجري في لبنان، إلا أنه نادرًا ما أتى على ذكره في الاشهر الماضية، ولا سيما في ظلّ توالي أزمات أخرى في العالم، منها الأمني والصحي والبيئي، علماً أن بيروت لا تزال تعاني بشدة من كارثة الانفجار.

اليوم، ومع اقتراب الذكرى الأولى لجريمة مرفأ بيروت يعود الاهتمام بالملف اللبناني الى الواجهة عبر سلسلة من المقالات والتحقيقات التي بدأ الاعلام الأجنبي بنشرها في الأيام القليلة الماضية.

قراءة التفاصيل المؤثرة في هذه المنشورات والتي تضيء على وجع الشعب اللبناني تطرح مجموعة أسئلة من أبرزها:

لماذا لم يستطع هذا الشعب توظيف الزخم الإعلاميّ والسياسيّ العالمي الذي حظي به لكي يفرض تحقيقاً دولياً يتيح معرفة حقيقة ما حصل ويؤهل لمحاسبة الجناة؟ هل لأن اللبناني لا يتمتع بحصانة كافية لمواجهة قوى الأمر الواقع؟

أمنيتي، كإعلامية مغتربة، أن أرى الإعلام الأجنبي الذي تمكّن عبر التاريخ من إسقاط رؤساء، وتبرير حروب، وإجبار دول على الانسحاب من نزاعات، أمنيتي أن يُحدِث هذا الإعلام فرقاً حقيقياً في الأزمة اللبنانية.
كم أودّ أن أرى الإعلام الغربي يوظّف قدراته الاستقصائية للمساهمة في كشف الحقائق واستخدامها كقوة ضغط يُجبر عبرها المجتمعات الدولية والمنظمات الأممية على حلّ لغزِ ما اتفقت كل وسائله على وصفه بجريمة العصر.

رانيا بوناصيف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى