آفاق التوتر الروسي الاوكراني: حرب باردة جديدة؟
بقلم نسرين زهر الدين
بايدن بدأ ولايته بمضايقة روسيا
بدأ بايدن بتنفيذ سياسته الخارجية التي أرسى ملامحها في خطاب القسم وقبله في المقابلة التي أجراها قبيل استلامه منصبه. جاءت قطرة روسيا أول الغيث بتحريك الدمية الاوكرانية التي تطمح منذ زمن للانضمام إلى التابع الاوروبي للعملاق الاميركي. واختصار الحديث يشي بحرب باردة جديدة أولى ساحاتها الحدود الاوكرانية الروسية في الدونباس.
جذور الصراع الروسي – الاوكراني
من المفيد لفهم ما يجري هناك العودة الى الماضي القريب عندما أتمّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السيطرة على شبه جزيرة القرم عبر اقامة استفتاء لعودتها الى الاتحاد الروسي حيث أنّ غالبية سكانها من القوميتين الروسية والتتارية وقد صوّتوا للانضمام الى الاتحاد الروسي وبذلك تجنب الرئيس الروسي تداعيات خطيرة كانت ستطيح بالمنفذ الى البحر الاسود بعد نجاح الولايات المتحدة وحلفائها الاوروبيين في تمرير ما يسمى بالثورة البرتقالية في عام 2014. ومع الضمّ، بنت روسيا جسراً بين القرم وجنوب روسيا فوق مضيق كيرتش ردّاً على الحصار الاوكراني للقرم ومنعها من الكهرباء والخدمات الاساسية إلاّ أن الخطوة الروسية قوبلت بعقوبات أوروبية عليها.
وكانت من نتائج هذه الثورة الخروج من فلك موسكو والجنوح نحو الغرب الاوروبي. غير أنه أثار خوف سكان غرب اوكرانيا ذوي الأصول الروسية والناطقين باللغة الروسية وأعلنوا انفصالهم بعد معارك مع السلطات الاوكرانية الجديدة وأسسوا جمهوريتيْ لوغانتسك ودانتيسك في ما يسمى باقليم الدونباس. يتميز هذا الاقليم بمناجم الفحم والثروات المعدنية العديدة وهنا تكمن أهميته وقوته الاقتصادية بالإضافة الى التبادل التجاري بين سكانه الذين يحملون بمعظمهم الجنسية الروسية. واستمر التوتر والمناوشات بين الجانبين الى أن توّج التصعيد بعملية اغتيال رئيس جمهورية دونيتسك الشعبية المعلنة من جانب واحد ألكسندر زخاراشينكو عام 2018 واتهمت كييف بالتخطيط للانفجار الذي أودى بحياته واثنين آخرين.غير ان اللافت أن روسيا لم تعترف بهما رسمياً كجمهوريتين مستقلتين لكنها تعهّدت بحماية السكان الروس هناك وتستمر في تقديم الدعم الانساني والسياسي للجمهوريتين وقد يفسّر ذلك بسياسة موسكو التي تتجنّب التصعيد.
مع توالي حكم القوميين الاوكرانيين ازدادت أوكرانيا قرباً من الغرب وبالأخص أوروبا الشرقية المجاورة كسلوفاكيا ومولدافيا وبولندا ورومانيا والحقيقة أن القوميبن الاوكرانيين اكتسبوا تاريخياً أسباب عديدة للنزاع مع الروس ليس أقلّها كونهم كاثوليك بينما جنوب وشرق اوكرانيا معظمه من القومية الروسية والديانة الارثودكسية بالإضافة الى كون أوكرانيا وقفت الى جانب المانيا النازية ضد الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية مما حدا بالزعيم السوفياتي ستالين الى ملاحقة الرئيس آنذاك عقب هزيمة هتلر ففرّ الى ألمانيا ولكن عملاء ستالين هناك تمكنوا من تصفيته عام 1956. وخلال عهد خروتشوف، بدأت الدولة السوفياتية استعادة اهتمامها بنهضة اوكرانيا كونّ الرئيس هو اوكرانياً، بالإضافة الى أنه أهدى شبه جزيرة القرم الى أوكرانيا السوفياتية آنذاك.
عام 2018 حدث أمرٌ مفاجئ. احتجزت روسيا سفناً اوكرانيةً متجهة من ميناء اوديسا على البحر الأسود شمال شبه جزيرة القرم الى ميناء ماريوبول في جنوب أوكرانيا عبر بحر آزوف شرق شبه جزيرة القرم والذي الذي يبعد حوالي 800 كلم عن العاصمة كييف. ويمثل مضيق كيرتش الذي احتجزت السفن عند عبوره بمثابة بوابة للعبور الى بحر آزوف عبر البحر الأسود. تولّى الرئيس الاوكراني الحالي فلاديمير زيلنسكي الحكم عام 2019 وساد جوّ من الهدوء النسبي غير أنه عاد وفجّره بالقيام بالخطوة العدائية الأولى حالياً عبر قصف الدونباس حيث جيشا الجمهوريتين الانفصاليتين من العديد الروسي المتطوّر، الذب تمكّن الى الآن من صدّ الهجوم والاستعداد للأسوأ، في حين حشدت روسيا قواتها على الحدود الشرقية لأوكرانيا وأجرت مناورات استفزت أوكرانيا والاتحاد الاوروبي إضافة طبعاً الى الولايات المتحدة صاحبة التحريض الواضح للخطوة الاوكرانية الاستفزازية. رغم أن المناورات الروسية مهما يكن المقصود منها فهي داخل الأراضي الروسية الواقعة تحت السيادة الروسية ولهذا فهي كما يصفها الرئيس الروسي محقّاً.. “شؤون لها علاقة بالداخل الروسي”.
المستجدات في التصعيد
أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الخميس في 25 نيسان عن اختتام مناورات أدّتها قوات المنطقتين العسكريتين الجنوبية والغربية الروسيتين وأمر بعودة القوات المشاركة إلى مواقع مرابطتها الدائمة. وجاء ردّ الفعل الاميركي حذراً وخائباً نوعاُ ما لأن فرصة توريط روسيا في معارك على حدودها يبدو أنها قد فوّتت وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس خلال مؤتمر صحفي له في اليوم نفسه، تعليقاً على إعلان وزارة الدفاع الروسية: “سمعنا هذا الكلام، وأعتقد أن ما نريده هو الأفعال. فيما رحبت كييف خوفاً من أن تتحمل وحيدة نتيجة التصعيد ضدّ روسيا. لكن شويغو اعتبر لاحقاً ان روسيا ترفض أي تحذيرات لأيّ اعمال عسكرية تقيمها داخل أراضيها.
ومن جهته، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أنّ روسيا سترد بحزم على أي استفزازات تهدّد أمنها محذّراُ من أن بلاده لن تسمح لأحد بتجاوز الخطوط الحمراء من دون تسمية اوكرانيا أو حتى الولايات المتحدة … حديث بوتين يأتي مع دعوة موسكو كييف وحلف الناتو إلى الامتناع عن اتخاذ خطوات قد تؤدّي إلى التصعيد في دونباس. كما يتزامن أيضاً مع إعلان الخارجية الروسية يفيد أنّ عشرة أشخاص من موظفي السفارة الأميركية في موسكو غير مرغوب فيهم، وأمهلتهم شهراً لمغادرة روسيا. كما أعلنت روسيا إغلاق ثلاث مناطق في البحر الأسود أمام السفن الحربية الأجنبية حتى 31 أكتوبر المقبل. بعدها، احتجّت أوكرانيا وقلقت أميركا.
دور الولايات المتحدة الاميركية
في الأشهر القليلة الماضية، شهدنا زيادة مستمرة في الاستفزازات المعادية لروسيا من قبل الولايات المتحدة الأميركية والغرب، والتي يتم توريط المزيد والمزيد من الدول فيها. وأصبحت أو ربما تصبح أرمينيا، بيلاروس، ترانسنيستريا، دونباس مناطق ساخنة. ويجري التصعيد والسخونة إلى مستويات غير مسبوقة للعلاقات مع أوروبا/الناتو. وتدلّ محاولة الانقلاب في بيلاروس، عن طريق تخطيط محاولة الاغتيال للرئيس لوكاشينكو، على غياب أي سقف ومكابح لتصعيد المواجهة مع روسيا. بالتوازي، وعلى الرغم من عدم نجاحها حتى الآن، تُبذل جهود مضنية لزعزعة استقرار الوضع داخل روسيا نفسها وليس أقلها قضية المعارض الكسي نافالني.
هناك صراع يختمر في العالم، يحمل كل الفرص للتحول إلى صراع عالمي وحرب باردة جديدة، وهو الحرب في أوكرانيا. وفي حالة الهجوم على جمهوريات الدونباس، ثم ردّ روسيا، فإن فرصة أوكرانيا ضئيلة للبقاء على قيد الحياة، ولا سيما بالنظر إلى وعد الرئيس بوتين بأن مغامرة كهذه سيكون لها عواقب وخيمة على الدولة الأوكرانية. ويعتقد عدد من المراقبين أن الولايات المتحدة الأميركية ليس لديها خوف من الانجرار إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، طالما يعلم الساسة الأميركيون أن روسيا لن تجرؤ على استخدام النووي. وقدرة الأسلحة التقليدية للولايات المتحدة الأميركية، ناهيك عن الناتو، تفوق قدرة روسيا بعدد من المرات. بالإضافة إلى ذلك، لا زال الغرب، بقصور ذاتي هائل، جامداً عند فكرة أن روسيا ليست سوى محطة وقود من تسعينيات القرن الماضي..
ومع ذلك، فواشنطن ستؤخّر لحظة تورّطها في الصراع قدر الإمكان. ستحاول أيضاً تقليل حصة مشاركتها على حساب الحلفاء، كما تعوّدت دائماً الولايات المتحدة الأميركية إنشاء تحالفات عسكرية للتوغل في المناطق الساخنة حول العالم. ولكن الآن يجب أن يكون هذا التحالف واسعاُ قدر الإمكان، حيث ستواجه الولايات المتحدة هذه المرة ثاني أقوى قوة عسكرية في العالم: روسيا. وإذا وصل التصعيد الى أعمال عسكرية حقيقية على الأرض ستحاول الولايات المتحدة على الأرجح إشراك جميع حلفائها حول العالم، دون استثناء، بمن فيهم العرب. بدأت الولايات المتحدة باستجرار الحلفاء الأوروبيين اولا” عبر قمة الناتو واجتماع وزراء خارجية الدول السبع ولكن الموقف الأوروبي حيال روسيا منقسم وليس مرشحا” للتوحد حاليا” ام تركيا فستحاول مد الرئيس المسلحين من سوريا كما فعلت مع اذربيجان دون تمادي سيكلف اردوغان غاليا”. غير أن فتح باب المواجهة مبكراً مع الصين وروسيا جعل إدارة بايدن عرضة للانتقادات داخلياُ لدرجة أشاد البعض بعقلانية الرئيس السابق ترامب في تصريحه الأخير قائلاً إن هذا التصعيد ضدّ روسيا والصين يدفعهما إلى التعاون والتنسيق وحتى التحالف في مراحل لاحقة.
يشرح الكاتب الفرنسيّ تييري مايسان على مدونة Voltaire Network أن الولايات المتحدة ليس لها هدف سوى تدمير الثقافة الروسية والعربية معاً كما الاقتصاد الصيني وهذا بالطبع لا علاقة له بمقولة الدفاع عن شعبها. بالنسبة لواشنطن يهدّد مشروع السيل الشمالي الثاني لجرّ أنابيب الغاز الروسية الى أوروبا بتحرير أوروبا الغربية من اعتمادها على النفط الاميركي. أما فيما يتعلق بالتصعيد الروسي الاميركي الأخير، فلا مجال للشكّ أنّ الرئيس بايدن هو من فتح باب العداء عندما نعت الرئيس الروسي بالقاتل وهي سابقة لم تحصل منذ وقت طويل. ويضيف مايسان في تسجيله سلسلة تواريخ متتالية تمتد من أواسط آذار الماضي كيف بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو بمناورات “دفاع اوروبا 21” وهي مستمرة حتى حزيران وتتضمن بالطبع نشر مكثف للمسلحين والعتاد لاستدراج مواجهة مع روسيا.
غير أن اتصال بايدن ببوتين من أجل اقتراح عقد قمة أضاف بعض النور للوضع المظلم أصلا.ً هذا وقد خرجت تصريحات قمة الدول السبع وحلف الناتو بتصريحات كانت مخيّبة لآمال كييف التي وبمطلق الصراحة أنها تودّ الانضمام إلى حلف الناتو إلا أن استدراج الدب الروسي هكذا يقضي على اوكرانيا وبالتالي تفقد الولايات المتحدة نقطة المناورة الأقوى بجوار روسيا. في المحصلة يستنتج مايسان أنه في حال حصل لقاء بين بايدن وبوتين يصبح من المبكر جداً للحلفاء الغربيين أن يموتوا من أجل كييف.
أوكرانيا اليوم جورجيا الأمس والتكرار لا يُعلّم
يقارن الباحث ألكسندر بونوف في “معهد كارنيغي –موسكو” التوتر الحالي بما حصل عشية حرب الأيام الخمسة التي شنتها روسيا على جورجيا في العام 2008 أكثر من كونه ينسب إلى تحوّلات العام 2014 في أوكرانيا. عندما استفز الرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيلي روسيا وضمّها إلى المعسكر الغربي كما يفعل زيلنسكي حالياً واستبق الحرب بضربات على الجنوب الجورجي وكانت النتيجة إسقاط ساكشفيلي وتقزيم جورجيا عبر انفصال اوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عنها. فيما الوضع الآن جد مشابه كما يعتبر بونوف لأن المحادثات الروسية الأوكرانية قد تجمدت وبدأت التحضيرات العسكرية الحدودية من الطرفين. كما أنّ وصول الإدارة الاميركية الجديدة التي تتعامل بودّ مع اوكرانيا قد يكون فٌهم على أنه ضوء أخضر لكييف لاستعادة سيطرتها على الدونباس عبر عمليات خاطفة وقد يكون الكرملين قد قرأ ذلك على أنه مؤشر إضافي للخطر. ويلفت إلى أن موسكو لديها مسبّب لمعاقبة زيلنسكي كما كان لديها في العام 2008 لمعاقبة ساكشفيلي لكن الفرق الآن أنه لا حرب جدية تلوح في الأفق.
خاتمة
باختصار، إنها حرب باردة جديدة كما كتب الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف منذ يومين ولا يمكن حلّها إلاّ بتسوية ما حسب قوله وهو ما يدعو للترّقب والانتظار ممّا قد تحمله الفترة المقبلة على صعيد العالم كلّه.