جاليات

يوسف عبد الحق شعلة متقدة حيوية في زمن العتمات الصعب

خاص البيرتا- حاورته عايدة عجرم فياض ونسرين زهر الدين

نكاد نجزم نحن المغتربون العرب المقيمون هنا تحت سماء مقاطعة ألبرتا الكندية.. وكلّنا يقين أنّ ما من أحدٍ وطىء هذه الأرض إلّا وقد إجتذب سمعه ثلة أسماء لمعت منذ مجيئها ولما تزل حتى اليوم محور حديث الجالية والمجتمع المحلي، ولعلّ أبرزها ذاك الفتى اليانع العصامي الذي أتى بمقتبل شبابه طامحاً ببناء مستقبل أفضل، حالماً بتحقيق إنجازات سرعان ما تحولت الى حقائق..

ذاك الفتى هو يوسف عبد الحق او “جو حق” كما تحلو له التسمية، الذي هاجر من “ينطا” قريته الجبلية النائية على سفح جبل حرمون في بقاع لبنان حيث الحياة القاسية تفرز نوعاً من التضامن الاجتماعي البدائي واضعاً نصب عينيه أهدافاً إنسانية تحمل صلابة الإنسان البقاعي وانفتاح اللبناني في آن معاً، فبدأ يوسف بإرادته الفولاذية بنقل إرث تلك الأرض الصلبة، وقيم أجداده وبيئته البقاعية، فنجح في منحها أبعاداً أوسع وأخرجها الى العالم الحديث ليصبح وطنه نموذجاً يحتذى به في تلاقي الحضارات على أساس الندية والثقافة المتبادلة وإحياء الإرث الإيجابي بين النشىء على مدى سنين ومراحل عديدة لم يتوقف تدفقها الغزير الى يومنا هذا؛  فيوسف لم يتوانَ يوماً في نشاطه ولم ينسَ لحظة واحدة أهدافه وأحلامه التي هاجر من أجلها.. وكان هذا يظهر جلياً في فكره المتجدد دوماً وأفكاره الخلاّقة المعطاء.

بدايات الهجرة: دراسة وانبثاق العمل الثقافي

قدم المراهق حينها عام 1966 الى اونتاريو لمتابعة دراسته الثانوية ثم الجامعية متأثراً بالنهضة الثقافية القومية الاجتماعية وفكر أنطون سعادة، نابذاً التمذهب والطائفية والمصالح الضيقة وحاملاً القيم البريئة للريف حيث الانسانية والعائلية تطغى، وهذا ما غذى فكره واتجاهاته ومن ثم نشاطاته. تولى منصب نائب رئيس مجلس طلبة الجامعة في كلية التربية في جامعة ويندسور ثم سكرتير جمعية الطلبة العرب حيث اختار اولى اختصاصاته الجامعية.

قدم إلى ادمنتون – البرتا بعد تخرجه وفيها درس العلوم الاقتصادية والسياسية في جامعة البرتا محصّلًا شهادة الماجستير . ساهم في تأسيس الاتحاد العربي الكندي وهو تجمّع للجمعيات الموجودة في كل أنحاء كندا حيث تولى منصب نائب الرئيس لغرب كندا.أقام الندوات الدراسية والبحثية لعلاقات كندا مع العالم العربي وكان الإقبال جيد جداً باستثناء ذوي الأصول العربية الذين كان إقبالهم ضعيفاً لعدم الاهتمام بالموضوع وهذا ما شكّل تحدٍ ليوسف ورفاقه لجذب العرب الى هويتهم واندماجهم الصحيح في المجتمع الكندي متصالحين مع ثقافتهم. كما حصل لاحقاً على شهادة في القانون التجاري والمؤسسي من معهد سانت كلير في ويندسور – أونتاريو.

انشأ مجلس الإرث الثقافي لألبرتا عام 1978 وبقي يعمل على النشاطات الثقافية كما انضمّ ايضاً للمجلس الكندي للتنمية العالمية و عمل على إتمام التمويل للعديد من المشاريع لجمعيات العمل الإنساني والاجتماعي.

و أشاد عبد الحق خلال حديثنا معه “بجمعية الصداقة العربية الكندية “ومؤسسها السيد يزن حيمور مشيراً الى أهمية تلك الجمعية التي كانت ولما تزل جسرًا وطيدًا للتأقلم سواء للمهاجرين الجدد أو للمقيمين العرب لناحية دورها الريادي في مساعدة النشء وتوطيد علاقتهم بوطنهم الأم مع الفخر بانتمائهم لوطنهم الحاضن كندا. وبتواضعٍ مُلفت تحدث عن  فخره بإدماج اللغة العربية كلغة ثانية  في بعض المدارس الرسمية في ادمنتون مثل مدرسة غلنغاري ومالمو ومدارس اخرى مشيراً الى دوره “المتواضع جدا ” كمستشار لوزير التربية حينذاك في مساعدة القيّمين على هذا البرنامج والذين كان لهم الدور الفعال الأكبر في إنشاء هذا  البرنامج الذي ما زال يلعب دورا فاعلا في تأصيل الهوية الثقافية والحفاظ على ملامحها .

 

نضوج الحياة العملية

تدرج عبد الحق في مناصب عدة  في حكومة ألبرتا كمستشار لوزارات التربية والاقتصاد والتجارة والابحاث التكنولوجية وكان عضواً  في أهم أربع لجان اقتصادية بالمقاطعة ومفوضاً لتحرير التشريعات الفدرالية والسياسات والبرامج وإعداد التذكيات لمشاريع الطاقة والبيئة والصحة وكذلك عمل كممثل لمقاطعة ألبرتا في التفاوض مع الجمعيات التجارية الكندية والمؤسسات الدولية وجميع الإدارات الفيدرالية والسفارات في كندا .

حلّ ضيفاً متكلماً لبقاً في مناسبات اجتماعية وانسانية وسياسية لا تعد ولا تحصى الى العديد من المؤتمرات والمؤسسات والمنظمات التجارية حول موضوعات الفرص العالمية وقدرات ألبرتا على التصدير والمنافسة العالمية وصورة كندا في الشرق الأوسط و نال أوسمة وجوائز عديدة تكريماً  لنشاطاته الانسانية والعملية والفكرية.

يشغل حالياً المراكز التالية:

 

-عضو مجلس قضاء لتعيين القضاة في ألبرتا

-مستشار تطوير الأعمال العالمي.

-مستشار تعليم وتدريب.

-كاتب عدل في مقاطعة ألبرتا.

-رئيس قسم التعليم والتدريب واستشارة الأعمال في ألبرتا.

مراحل الهجرة العربية واللبنانية تحديداً الى مدينة ادمنتون

يفنّد عبد الحق هذه المراحل على الشكل الآتي:

المرحلة الاولى: المغامرون  وهم الاجداد الأوائل الذين بدأوا التدفق منذ العام 1887 وعملوا في الزراعة ومناجم الفحم.

المرحلة الثانية: الجيل التأسيسي  ويتضمن الأيدي العاملة الشابة التي قدمت الى ادمنتون بدعوة من أقاربها حيث الحاجة الى مزارعين وفلاحين في أواسط الاربعينيات الى الخمسينيات وعملت في شركات الإنتاج الحيواني من اللحوم والحليب والالبان. وذلك قبل الاكتشافات النفطية في المقاطعة.

تعلم أبناء هؤلاء وأنتجوا بعض الشخصيات كالقضاة والمحامين والمهندسين في حين علاقتهم بالجذور لم تتعدَ معرفة بعض المأكولات اللبنانية كالتبولة والكبة.

المرحلة الثالثة: جيل العناء والإنتاج. قدم المهاجرون اللبنانيون في السبعينيات وهي فترات التوتر الأمني في بلادهم الاصلية والتي تلتها حرب أهلية ضروس. أفسح لهم المجال لادارة الاعمال وتعلمت زوجاتهن اللغة و أصبحن يشاركن في الأعمال فبات الإنتاج وفيراً جداً في تلك الفترة  وتحوّل  إتكال العائلات اللبنانية في الوطن الأم على أموال الإغتراب لتخفيف وطأة العوز والحاجة من جراء الحرب. شكّل الهروب من الجحيم الدائر هناك هروب معين من الهوية فاختار هؤلاء تغيير اسمائهم من عربية الى أجنبية ( لتتماشى) مع المجتمع الكندي ، وكان ارتياد الجامعات والعلم  قليلاً وقتذاك في صفوف هذا الجيل بسبب  الانغماس في الحياة العملية والحاجة للايدي العاملة  .

المرحلة الرابعة: جيل المستثمرين  وتميزت حياته بالسهولة وطلب العلم بكثرة. ومع الوقت أصبح هذا الجيل الذي قدم في التسعينيات الأوعى  فكرياً والاكثر التصاقاً بالجذور والحضارة. تثقف واعتمد وسائل بحث مستقلة سهّلتها الثورة التكنولوجية ليتعرف وعلى طريقته الخاصة على جذوره التي اعتزّ بها ،فتصالح مع هويته ،لا بل راح يتباهى بإسمه الاصلي وخلفية أصوله ووطنه الأم.

وفي معرض حديثه عن الثورة التكنولوجية يشرح عبد الحق عن حسناتها في تسهيل التواصل ولكنها  خلقت على المقلب الآخر تباعداً في اللقاءات الإنسانية والإجتماعية التي تتشارك المكان والمساحة الفعلية نفسها.

يتمنى عبد الحق من موقعه، الافادة من التحول الكبير في العقل الغربي تجاه الشرق الأوسط الذي حصل في العشر سنوات الأخيرة وخصوصاً بعيد مساهمته في إنشاء مركز للدراسات الشرق أوسطية والإسلامية في جامعة ألبرتا وهي خطوة بحثية مستدامة للأجيال المقبلة مهما كانت أصولها للتعرف الى هذه الحضارة.

مبادرات جديدة ونشاطات لا تتوقف

وتناول عبد الحق النشاطات الجديدة التي انتجت حديثاً ومنها المجلس العربي الكندي لأصحاب الاعمال والمهنيين والذي يهدف الى خلق تفاعل بين المهنيين وأصحاب الأعمال في ألبرتا ويشكّل فرصة لإظهار الطاقات الفكرية العربية في ظل الهجمة الممنهجة على حضارتنا وتاريخنا من جهة و لإظهار اندماجنا كعرب في المجتمع ووصولنا الى اعلى المراكز من جهة أخرى.

وأشار الى أن  “الأقبال لا زال معنوياً الى الآن أكثر منه فعليا” يقولها عبد الحق بواقعية وأمل وكأنه يستبشر خيراً بالمستقبل في تأدية هذا المجلس لدوره وحصوله على الدعم المطلوب من أبناء الجاليات العربية.

وتوقف عبد الحق عند المبادرة الفكرية الأخيرة _التي سبق ان أشرنا اليها عبر صفحات الموقع الكلمة نيوز_ وهي إنشاء حديقة تحمل اسم  الأديب  الكبير  جبران خليل جبران. مشيراً الى ان لجنة كانت قد تشكلت من شخصه  ومعه كل من السادة يزن حيمور،  سمير بليبل، والقنصل الفخري حسين رحال ،كل من موقعه ،وقدمت إقتراح التسمية الى “لجنة التسميات ” في بلدية ادمنتون  ،فتمت الموافقة عليها. وفي هذا الاطار يشدد عبد الحق على ان الهدف من إنشاء الحديقة لا يتوقف عند تخليد اسم المفكر الكبير فحسب انما القيام بنشاطات ثقافية متعددة وورش عمل نقاشية حول فكره تمثل مساحة ثقافية راقية يتمتع بها المهتمون على مساحة المنتزه.

تكمن أهمية يوسف عبد الحق وأمثاله ليس في الإنجازات الفردية التي يلمع بها اللبنانيون في  المهجر فقط،إنما في تكريسه إرثاً من الإنجازات الثقافية والحضارية الخالدة التي تؤسس لفهم جديد لثقافتنا العربية وتضع لبناً متيناً في جسر التواصل بين الشرق والغرب ،ذاك الغرب الذي فتح أبوابه لأبناء الشرق وأتاح لهم فرصة الإبداع والارتقاء.

خلال مقابلتنا من خلال المنصة الإلكترونية بدا عبد الحق متّقداً في تسلسل أفكاره، تعكس تعابير وجهه الثابتة ثقة عالية وحضوراً متمكناً فيما تتنقل يداه بحيوية تسابق طاقة الجيل الجديد وعيناه التي اشتاقت وطنه الأم تروي حكايات شوق وحنين.. وتقصّ لنا حكايات عن فخره وإنتمائه إلى وطنه الثاني كندا، البيئة التي حضنت عمله الإجتماعي وغذّته طيلة سنوات عديدة… لعلّ شخصيته الفريدة وشغفه بالعمل الإجتماعي  أكسباه هذا الحضور المميز وجعلاه معيناً لا ينضب بالأفكار التي تحلّق بعيداً متجاوزة جميع الحواجز نحو الحرية والانسانية الأسمى.

حتماً يحق ل “جو” أن يزهو  بإنجازاته هو وأمثاله الذين حملوا عبء حضارتنا في المهجر … ونحن يجدر بنا أن نزهو ونفخر به.. هو الذي طالما كان شعلة نور ونار تضيء أينما حلّت وتنير الدروب الشائكة والأحلام البعيدة …

فمن مثلك يوسف فليزهو ويزهو… وحبذا لو تزهر في كل فصل بذرات خير ومحبة وتلاقٍ…

May be an image of 4 people

 

May be an image of 7 people

May be an image of 3 people

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى