أصدقاء الكلمة نيوز

رواية “قالها محمود” لعبد القدوس الأمين: زمن البدايات الأسطورية

بقلم زينب اسماعيل

قالها محمود .. وفعلها عبد القدوس الأمين، بكل كيانه وحسّه الروائي، فعلها، وبثّ الحياة في شخصية مارلون براندو من جديد، براندو الذي لُقب بملك هوليوود وعملاق أميركا والعالم، براندو الذي رفض جائزة الأوسكار عن فيلمه العرّاب بسبب عنصرية السينما الأميركية التي شوهت حقيقة الهنود الحمر وحقيقة المواطنين السود، براندو الذي غيّر قواعد اللعبة السينمائية في الخمسينيات، حتى قيل لابد من تقسيم التمثيل إلى ما  قبل براندو وما بعده، نعم فعلها عبد القدوس وكتب بجرأة عالية عن ذاك الزمن وإذا كان براندو يشكل علامة فارقة في عالم السينما فإنّ محمود هو العلامة الفارقة لزمن البدايات بدايات ولادة الفعل المقاوم، ومحمود هو أمير ذاك الزمن، وذاكرته الندية،ومفتاح بنيته السردية التي تخترق الرواية وتؤطرها منذ صفحاتها الأولى وحتى الرمق الأخير.

يقتحم عبد القدوس الأمين في إصداره الجديد، “قالها محمود” (دار رسالات)، التاريخ الشفوي، كمرجعية واقعية، يصوغ من خلالها سيرة الشهيد محمود ديب (1963- 1983) بأسلوب روائي تغلب عليه اللغة الشعرية، لكنها ليست اللغة الشعرية الوجدانية المفرطة، إذ سرعان ما يتحول الراوي إلى مؤرخ اللحظة يجيد سرد التفاصيل والأحداث والوقائع المصاحبة للشخصية والمتماهية بعملية السرد.

لا يدّعي الكاتب أنّ كتابه هذا، هو رواية، بل مجرد أوراق يرصد من خلالها زمن البدايات، ذاك الزمن الجميل الذي سبق هذا الزمن، زمن البناء والانجازات العظيمة التي راكمتها المقاومة، وهذا التواضع في تجنيس كتابه يضمر في طياته أبعاداً رمزية، يدفعنا للتساؤل عن شرعية الكتابة التي تستمد جماليتها ووجودها من الآخر الذي يسكنها، ومن التجارب الأدبية التي تشغل بقلق عاشق هذه الكتابة، وتنحت مفاهيمها وجماليتها داخل جغرافيا الأدب. صحيح أنّ الكتاب يحكي سيرة الشهيد محمود ديب ويعلنه فاتحة سلسلة البدايات، في إشارة إلى خوض غمار المواجهة الثقافية عبر القصة، لكننا لسنا أمام مذكرات أو يوميات، نحن أمام رواية يحسن فيها عبد القدوس الاختفاء خلف الراوي، وخلف المرويات الشفوية، يوظفها في قالب درامي تتشابك فيه الأحداث، لا سيما تلك الأحداث المصيرية التي مرّت على لبنان، يقدمها الكاتب وفق رؤية توثيقية لا تخلو من المشهدية السينمائية، يضعها ضمن سياق  تغيير هوية لبنان العربية، بدءاً من الحرب الأهلية في العام 1975، “التي ما قامت إلا لقهر الثورة الفلسطينية التي كانت تكيل الضربات الموجعة للكيان الإسرائيلي”، مروراً بالاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 تلك الحقبة التي شهدت اتفاقية 17 أيار، أعقبتها انتفاضة 6 شباط، فغيّرت المسار نحو تباشير ولادة المقاومة من عمق المأساة “حفراً بالأصابع” كما يقول الراوي.

يبني الراوي في المخيلة صورة أسطورية لبطل الرواية محمود، يعيش مع شخصية البطل الذي كأنه يتملك الراوي كلياً، فتشعر للوهلة الأولى أنّ ثمة هوسا قد أصاب الراوي، هوس الشخصية الآسرة لبطل الرواية، ويقولها صراحة عبد القدوس، “حين كتبت الرواية كنت أنا ومحمود فقط، عشنا سوياً كل التفاصيل لحظة بلحظة”.

تبدأ الرواية بمونولوغ داخلي، يحاكي فيها الراوي الذاكرة، يستحثها على كسر حاجز الصمت، فبدا كأنه يعيش بين نارين، الأولى  ما يعرف بـ”حبسة الكاتب” العاجز عن إخراج المدفون في أقاصي النفس، والثانية حرصه على إحياء الذاكرة بالكتابة قبل أن يدهمه الموت، “لا أريد لتلك الذاكرة أن تموت بموتي”. إلا أنه سرعان ما يكتشف أنّ محمود هو مفتاح الذاكرة وأميرها، رأه هناك يجوب حي البسطة وشارع فتح الله بكل حضوره البهي، على أطراف ردائه تتعلق التفاصيل وتحوم الذكريات كالفراشات بين يديه، وحول جسده الممشوق. لم يكن محمود قد تجاوز الثالثة عشرة من عمره حين اندلعت الحرب الأهلية فصار يقاتل مع الفلسطينيين في خياله، ذاك الفتى الذي تشرّب حب فلسطين منذ الطفولة، وطفولته كانت ممزوجة برجولة مبكرة لافتة، تحيل القارئ إلى نظرية فلاديمير بروب حول السمات العجيبة للبطل في القصة التي تنبئ عن مصيره بحيث تصبح صفاته معروفة حتى قبل انعقاد الحبكة. حين قرر الانتماء للثورة الفلسطينية أدهش القادة في منظمة التحرير الفلسطينية، فعرضوا عليه أن يفتحوا له مركزاً في شارع فتح الله. خلال تلك الفترة أثبت وجوده كمقاتل شرس، لكنه ليس كبقية المقاتلين الذين انغمسوا في الحرب الأهلية فضاعت بين نيرانهم القضية الفلسطينية بكل مظلوميتها، بل المقاتل الذي أدرك قدسية السلاح في مواجهة العدو الاسرائيلي فقط، وليس في مواجهة أبناء البلد الواحد.

لم تكن ساحات القتال وحدها تشغله، كان هم ناسه ومحيطه يتناوب على قلبه فيعتصر الإنسان فيه، فتراه مرةً يطرق باب مريض السكري محضرا له الدواء اللازم، وتراه في مشهد آخر يُفرغ جيب بنطاله مخرجاً كل ما فيها من نقود حتى بانت بطانة الجيب، لتأمين ثمن الاستشفاء لأحد فقراء الحي، ومرات عديدة يقف بمواجهة زعران الأحياء الذين سرقوا أرزاق الناس أو فرضوا عليهم الخوات. في الوقت الذي يجيد الراوي بناء صورة المقاتل الشرس في صفوف الأحزاب، يجيد تماما بناء صورته المناوئة لتلك الأحزاب وفوضوية السلاح. لذا تراه قد  تحوّل فجأة  من شخص محبوب من تلك الأحزاب إلى شخص مطارد، واستمرت هذه المطاردة إلى حين الاجتياح الاسرائيلي في العام 1982، حينها انقلب المشهد كلياً، فقد نسيت الأحزاب مشاكلها الداخلية، نسيت عداءها لنا يقول الراوي، “ولم يعد حمل السلاح إلا للقلة القليلة، تم رمي السلاح في المزابل، وتحت الأشجار وفي المكاتب المهجورة، بأقدامه كان يضرب محمود الأرض قهراً وغضباً قائلاً: السلاح يستمد شرفه من حامليه، هكذا كان يردد وهو يجمع السلاح من المزابل يمسح عنه الأوساخ بكل تقديس وفي عينيه ألم المرارة”. حين يتحدث الراوي عن السلاح المتروك في المزابل في لحظة مصيرية حرجة، تفترض من الجميع حمل السلاح ومواجهة العدو الإسرائيلي، إنما يستخدم بذلك استراتيجية نصية، قادرة على إقامة الترابطات الدلالية التي تحاكي مشروعية سلاح المقاومة في الحاضر والمستقبل، وتحاكم في الوقت عينه تلك المرحلة التي تخلى فيها الجميع عن مشروعية القتال بوجه العدو.

يحسن الراوي استخدام المشهدية السينمائية في تصويره للمواجهات العنيفة التي رافقت وصول العدو الاسرائيلي إلى مشارف بيروت، بدءًا من الدامور، خلدة، الشويفات، أو تلك الانزالات البحرية على مرفأ بيروت، لكنّ المفاجأة المذهلة أنّ هذه المواجهات ما قامت إلا بمبادرات فردية، قلة قليلة من مختلف الأحزاب ثبتت في المواجهة، ومحمود هو الأيقونة الأسطورية التي تألقت في مختلف الجبهات، بيديه العاريتين استحدث منصات من خلال قطع الأنابيب وصفائح الزنك لتلك الصواريخ التي رميت في المزابل فأعاد تشغيلها بجودة عالية ليصيب مقتلاً في صفوف العدو، وهو بطل مجزرة الدبابات الاسرائيلية على جسر سليم سلام، أكثر من خمسين قذيفة آر بي جي، أطلقها دفعة واحدة حتى نزفت أذناه، مشهديات عديدة وغنية، توثقها الرواية لذاك الزمن، يعتني عبد القدوس الامين بتفاصيلها، كما يعتني بقرائه تماما، فيخرج القارئ من الرواية كأنه مشارك في عملية القص، فيرى مع الراوي كيف أنّ الأدب يُرينا الجمال في الحروب والمعاناة.  يُذكر أنّ رواية “قالها محمود” كانت ضمن الباقة الأدبية التي أطلقتها وحدة الأنشطة في رسالات في منتصف الشهر الفائت.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى