أخبار لبنان

قراءة نقدية حول اقتراح النائب غسان حاصباني تقسيم بلدية بيروت

بقلم د.نزيه الخياط
*أستاذ علم اجتماع المدينة والتنمية المدينية / الجامعة اللبنانية
*المستشار الاجتماعي السابق لشركة سوليدير
أودّ بداية أن أذكر علّه تنفع الذكرى، بأن ما لم تقبل به بيروت في زمن الحرب لن تقبل به في زمن السلم، وأن خيار الموت الرحيم يُتخذ عادة لتخفيف الآلام عن المريض الذي يعاني من مرض عضال عصي عن الشفاء منه وليس ممن يعاني من حالة ضعف واضطراب ناجم عن سوء تغذية كما هي حال بيروت اليوم.
استحضر في ذهني خيار القتل الرحيم هذا، معطوفاً على مقولة “ومن الحب ما قتل “، خلال قراءتي لما أدلى به النائب غسان حاصباني من تصريح له في صحيفة “النهار” الغراء، وتنظيره لموجبات وأهمية ومزايا ما سيتضمنه مشروع قانون يقترحه لاستحداث دائرة بيروت الأولى بلدياً، وذلك اقتباساً من قانون الانتخابات النيابي الكارثي النافذ، بهدف إسقاط آلياته على العمل البلدي في بيروت، والذي سيكون بمثابة اطلاق رصاصة الرحمة على الأمل بإنقاذ الكيان عبر تقسيم وتشظي عاصمته الواحدة الموحدة بيروت، التي تميزت دوما وقبل اعلان قيام الكيان، بتنوع وتعدد اجتماعها، والذي لولا ميزتها التفاضلية اقتصاديا، تجارياً، خدماتياً طبياً وتعليمياً، ولولا أهمية مرفأها لما أصبحت هذه البيروت عاصمة لدولة لبنان الكبير.
كما يهم كاتب هذا المقال، التوضيح أنه من أشد المطالبين بضرورة تطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة على مستوى المحافظات، على خلفية متطلبات التنمية المستدامة وعملاً بمندرجات دستور الطائف، ولكن من منطلقات وطنية تشاركية ووعي سياسي جامع غير تقوقعي أين منها هذا الاقتراح العبثي.
المفاجأة كانت في جوهر ما طرحه بناء لمقاربة سياسية سطحية ضيقة، وبتقديم النتائج الجزئية على المسببات الكلية الجوهرية لأزمة بلدية بيروت المستعصية منذ سنوات عديدة بدءا ًبتضارب الصلاحيات في مركزي اتخاذ القرار فيها، بين المحافظ ورئيس بلديتها، والتي عانى من جرائها وما زال جميع سكان العاصمة باتجاهاتها الجغرافية الأربع، دون أن يحدد حضرة النائب سببياتها البنيوية أيضاً، المرتبطة بتحلل وبدائية العمل الإداري فيها وبانعدام الحوكمة الإدارية مع تذكيره أن فريقه السياسي كان وما زال شريكاً بلدياً فيها.
أظهر السياق العام لاقتراح التعديل إرباكاً منهجياً سياسياً يلامس الشعبوية غير الموفقة لمأساة المرفأ الوطنية الابعاد، أنه تعديل سيمهد لإنتاج حالة من التقوقع المكاني والمجتمعي، في لحظة جمعت هذه المأساة الجريمة ووحدت موقف جميع مكونات المجتمع اللبناني عامة، والبيروتي خاصة، الثائر على الفساد والفاسدين وكشف تفاهة القوى السياسية المشاركة في السلطة.
لقد تجلى هذا الارباك من خلال ما عبّر عنه النائب حاصباني في تبريره لطرحه هذا، غافلاً عن ماهية مرتكزات وأسس وجوهر العمل البلدي التنموي المعاصر، علمياً وإدارياً، حيث ان البلدية تشكل وحدة اساسية متكاملة ، تقريراً وتنفيذاً، في دورها لتحقيق التنمية المحلية مدينياً وريفياً، وليس كما عبّر عنه إنتقائياً في إشارته التبسيطية إلى أسباب تعثّر وتخلف العمل البلدي في بيروت التي عانت وما زالت تعاني منه، بغربها وشرقها، وعليه كانت المغالطات التي سقط فيها نتيجة تغليبه البعد السياسي الفئوي الضيق على حساب البعد الوطني الجامع لبيروت والبيارتة، بتعدديتهم الحميدة تاريخياً والتي كانت سبباً في نهوض العاصمة بدورها، موحدة متعاضدة بين جميع عائلاتها في الأفراح والأتراح، أينما توزعوا في ربوعها وفي مجالها التسامحي، ما سمح لها بأخذ موقعها كمدينة استقطاب عربية واقليمية ودولية مميزة على كل المستويات، وهذه المغالطات ترتكز على معطيات يمكن تحديدها وفق الاتي:
١ – تناسى النائب حاصباني أنه انتخب وفق الدستور نائباً ممثلاً عن الأمة اللبنانية جمعاء وليس عن مجموعة بشرية منعزلة في الزمان والمكان في دائرة بيروت الأولى حصراً، وهذه سقطة دستورية له، كما فاته أن هذا التقسيم الإداري المقترح لبيروت بلدياً كما انتخابياً، هو تقسيم مجتمعي تعيس قبل أن يكون انقساماً سياسياً بغيضاً بفعل قانون الانتخابات النيابية المفصل على قياس مصالح زعماء القبائل اللبنانية المتناحرة الذي لا يلاقي الصالح الوطني العام الجامع الذي عُبّر عنه بعدم المشاركة الشعبية الكثيفة في الانتخابات النيابية مؤخراً، كرسالة لا لبس فيها وجهت إلى جميع القوى السياسية، فإذا بالنائب حاصباني يسعى إلى تمرير وتجميل قانون بلدي لبيروت، مستنداً إلى فذلكة جزئية غير موفقة لتوظيفها في عملية التسويق التجميلي له وإجراء الانتخابات البلدية القادمة بموجبه.
٢ – صحيح أن الكارثة المادية والعمرانية الناجمة عن عصف انفجار المرفأ طالت حيزاً جغرافياً محدداً من شرق بيروت، وسببه يعود إلى وجود إهراءات القمح التي عملت على صد مفاعيل تمدد ترددات عصف الانفجار باتجاه الاحياء الغربية من بيروت والتي رغم ذلك نالت نصيبها من الاضرار والجرحى أيضاً بنسب أقل، كما أن شهداء الانفجار كانوا من جميع مكونات الاجتماع اللبناني، وفي هذا يكون النائب حاصباني قد أوقع نفسه في فخ سياسي، عبر محاولة حصر تداعيات هذا الحدث الجلل بشرق بيروت لحسابات حزبية ليس أوانها اخلاقياً ووطنياً في هذه اللحظة التاريخية البائسة من تاريخ بيروت والوطن.
٣ – بالعودة إلى انتقاده لرئيس واعضاء المجلس البلدي في بيروت الحالي وظروف انتخابه، لا بد من تذكيره مجدداً ان فريقه السياسي مع باقي الافرقاء من اركان السلطة التافهة، تحالفوا سياسياً وتحاصصوا بلدياً وانتفاعياً للفوز، وهم من أتوا برئيس واعضاء المجلس البلدي الحالي عبر التقاسم المشترك في مواجهة لائحة بيروت مدينتي التي كانت على قاب قوسين من الفوز على تحالفهم حينها.
٤ – يتحدث النائب حاصباني ويستفيض في الكلام عن الحرمان المطلق واللامبالاة الذي يتعرض له أبناء منطقة شرق بيروت خاصة بعد الانفجار، وهذا صحيح من حيث التقصير وتخلف المسؤولين عن مسؤوليتهم، كما أن منطقه هذا يصب ضمناً في إطار توصيف إفترائي جائر خص به ابناء غرب بيروت عبر تلميحه المستتر للنعيم الذي يعيشون في ربوعه تبريراً لطرحه التقسيمي للبلدية.
وهنا لا بد من التذكير أنه بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام ٢٠٠٥ انهار العمل البلدي تباعاً في جميع مناطق العاصمة، حيث أن الفقر والإهمال كان وما زال من السمات العامة لمشهد غرب بيروت المديني المتعدد في (الطريق الجديدة، زقاق البلاط، الخندق الغميق، حي اللجا في المصيطبة وغيرها من الأزقة المهملة خدماتياً).
٥ – استحضر النائب حاصباني وجود نسبة ١٣٪؜ إلى ١٤٪؜ من المسلمين في الدائرة الأولى، مقابل حوالي ١٥٪؜ من المسيحيين في الدائرة الثانية دون أن يذكر المرجع الإحصائي العلمي لهذه النسب، كما تجنب ذكر نسبة الفرق الكبير في مساحات مجال الحيز الجغرافي بين الدائرتين وفق مقاربة تنموية، مع تجنبه المقصود عدم تحديد الكثافة السكانية المتواجدة في كل منهما أيضاً، واللتان تمثلان على مستوى الحجم الجغرافي والديموغرافي نسبة الثلث إلى الثلثين تباعاً، وفق المعطيات الاحصائية المتداولة ومساحات المناطق العقارية الواقعة ضمن حدود تقسيمات بيروت الادارية .
إن هذا الطرح البلدي التقسيمي سيكون بمثابة دعوة تحفيزية لإعادة استحضار منطق الاكثرية العددية على حساب الاكثرية الوطنية، ما سينعكس صراعاً حتمياً متدحرجاً على حجم الأموال التي سترصد لأشغال واعمال التطوير المديني مكرراً في كلتا الدائرتين ما سيعتبر هدراً مضاعفاً للمال العام، هذا إذا سلمنا جدلاً بجدوى هذا التقسيم، وهذه العوامل ستزيد من حالة تشظي الكيان واطلاق رصاصة الرحمة عليه، خاصة وإن علة وجوده ارتبط بوجود موقع ودور بيروت العاصمة الجامعة الموحدة المتعددة بمكوناتها وبمرفئها الذي اعتبُر الأول بدوره وبنشاطه التجاري على شرق المتوسط، وبيروت الواحدة هذه، التي أعطت القيمة المضافة للكيان، استحقت أن تكون عاصمة دولة لبنان الكبير وان تكون مجال استقطاب وعقدة المواصلات البحرية والبرية والجوية، عربياً واقليمياً ودولياً على كافة المستويات.
٦ – الم يكن من الاجدى للنائب حاصباني أن يعمد إلى التنسيق مع نواب بيروت، وغالبيتهم مستقلين في الدائرتين واحرار في قراراتهم وفي خياراتهم بعيداً عن احتكار القرار السياسي البلدي الأحادي فيها، للاتفاق على مشروع لتعديل وتحديث قانون البلدية النافذ بما يؤدي إلى تعميم الحوكمة الإدارية وتطبيق الادارة البلدية الالكترونية فيها ما يمنع الفساد والرشاوى ويرشد الانفاق، كما إلى تعديل مواد الانتخابات البلدية وصولاً لاعتماد معايير الاختصاصات المتعددة التي تحتاجها عملية التنمية المدينية كشرط لتشكيل لوائح وتوزع المرشحين وترشحهم لعضوية المجلس البلدي في بيروت، بحيث يشكل اصحاب الاختصاصات المطلوبة نسبة ٧٥٪؜ من اعضاءه، وأما الاعضاء المتبقين فيكونوا ممثلين للفاعليات الشعبية والاجتماعية.
أخيراً، ومن موقعي الأكاديمي والعملي، أقترح على السادة في جريدة النهار العريقة بيروتياً، تنظيم حوار موضوعي مفتوح مع النائب حاصباني لمناقشته بمشروعه التقسيمي عملياً، وإطلاق النقاش العلمي حوله والسماح للرأي العام البيروتي الاطلاع على مفاعيله.
وعليه، نحن على ثقة أن عاصمة الكيان بيروت ستبقى عصيّة عن الانغماس في مسار الفتنة والانقسام، أياً كان مطلقها، وهي تختزن ذاكرة البيارتة الجماعية التاريخية والموروث المجتمعي الواحد، كما ذاكرتها المكانية الضاربة في عمق الوطن، هي بيروت طائر الفينيق الذي ينبعث دوماً من بين الرماد والتي ستبقى عنواناً ومثالاً للانبعاث المتجدد دوماً ومجالاً للتفاعل الابداعي والتكامل المجتمعي المتعدد، لأنها كانت وستبقى نموذجاً رائداً في الشراكة الوطنية الجامعة والعيش المشترك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى