فيليب جاكوتيه رحل عن 95 عاماً… وغاليمار تصدر له كتابين
قبل الوباء الراهن بعقود، اختار الشاعر فيليب جاكوتيه (سويسريّ يكتب بالفرنسيّة) عزلةً اختيارية بين الشعر والطبيعة. بنى بكلماته حصنًا يحميه من عواصف الخارج، بصراعاته وتياراته وايديولوجياته. وبدلاً من أن يهدر طاقته في الجدل مع الآخر، رسم بقصائده جدلاً حقيقيًا ومستمّراً بين الطبيعة والإنسان. وليست عزلته نابعة من حقدٍ على العالم، بل رغبة في صفاءٍ قد يخترق به جدار العتمة، ليفتح بابًا جديدًا على الحقيقة، أو ربما الصواب، وهي المفردة الأقرب اليه.
هذا التوق الى الاكتشاف جعله شاعراً لا يدّعي معرفةً، ولا يقترح جوابًا، بل يترك قصائده ساحةً مفتوحة على التساؤل الدائم.
شعره، مثله أيضًا، متحفّظ، هادئ، مُقتصَد. يتعامل معه بالإزميل، كنحّات مهموم بالاختزال. حسّاس تجاه الشوائب والزيادات، بل إنّ لغته وسيلة امحاء أكثر منها أداةً للتعبير.
جاكوتيه يكتب إذًا بصبرٍ ومشقّة، لا ليخاطب الإنسان، وإنما السرّ الكامن فيه. وهو يقول في هذا السياق: “أوليس الشعر سيرة مستعادة دوماً نحو السرّ القابع في ذات الإنسان؟”.
تكثيف اللغة وتنقيتها من كلّ ما هو زائد، صورةً واستعارةً وتشبيهًا، جعله أقرب الى شعراء الهايكو، وهو النمط الذي يفضّله على كلّ أشكال الوجدانية كما كان يقول. لكنّ فعل التشذيب الدائم حوّل لذّة الكتابة إلى ألمٍ مضنٍ. كأنّ جاكوتيه الشاعر يصير عند الكتابة مزارعًا مشغولاً بالحرث، غير يأبه بتعبٍ ولا وجع. ما يهمّه أن تكون أرضه صالحةً للزراعة. هذه المقاربة استخدمها جاكوتيه نفسه في أكثر من قصيدة، هو المسكون دائمًا وأبدًا بفكرة الأرض، والطبيعة.
“ليس الليل ما نظنه، قفا للنار وسقوطاً للصباح ونفياً للضياء، لكنه ذريعة لكي نفتح أعيننا على المخفيّ قدر إضاءته/ خَدَمُ المرئيِّ المتحمِّسون المبتعدون، تحت أوراق الظلمات، أقاموا مسكن البنفسجيّ، الملاذ الأخير لمَنْ يشيخ دون موطن”(ترجمة شاكر لعيبي).
جاكوتيه الشاعر الكبير، هو أيضاً مترجم عظيم عن الإيطالية والألمانية، وقد ترجم كبار الشعراء والفلاسفة والكتّاب مثل غوته وريلكه وغونغورا وهولدرلين وأنغاريتي، وهوميروس، إضافة الى أعمال روائية كثيرة. حاز جائزة وطنية سويسرية أساسية في مجال الترجمة، واعتبر واحدًا من رموز الشعر المعاصر. كرّمته “غنونكور الشعر” في العام 2003، وهو من الأدباء القلائل الذين خلّدتهم مكتبة “لابلياد” في حياتهم (2014).
تنقّل جاكوتيه بين الشعر والنثر، وكان دائما مرتبطا بفكرة المكان/ الطبيعة هو الذي قال مرّة “أمنح الكثير من الأهمية للقاء زهرة أو مرج”. وعن هذا الانتقال بين إدراكه للمكان الذي يقدم إليه إشارة ما وبين الكتابة، وبين المنظر الحقيقي وبين كتابة المنظر، يقول جاكوتيه “هنا تكمن كل مغامرة كتبي بدءا من “النزهة تحت الأشجار”، وبالتالي هي الكتب التي كتبتها هنا، والتي تشكل نصف المجموعة التي نشرتها. هناك من جهة القصائد ما أعتبرها فعلية، ومن جهة ثانية تعاقب هذه الكتب التي تعود لتروي في العمق ولو قليلا الأمر عينه، لكنها تعود لترويه لأن التجربة نفسها تعود لتعاش من جديد في أغلب الأحيان، ولأنها تبدو مركزية بالكامل. في هذه النثريات وانطلاقا من لقاء يمكن لي أن أصفه بأنه إشراقي حاولت أن أحيط بالكلمات، هذه اللحظات المعيشة وكأنها طقوس صغيرة، متواضعة في أغلب الأحيان، لكنها بدت لي أنها تحوي نوعا من العبارة الأساسية بشكل كامل”. ويُضيف: “يمكننا أن نتحدث عن العمل، بشأن النثر كما بشأن القصائد، قياسا إلى أن هذين الأمرين يخرجان من اندفاعة واحدة بشكل عام، إما على شكل نشيد قصير أو نشيد طويل أكثر إرباكا، إلا أنه يجري من طرف إلى آخر، باستمرارية تحملها العاطفة. فيما أكتبه من نثر تشكل حصة التأمل والبحث عن الكلمة الصائبة والتعديل الصريح، جزءا من النص. العمل على هذا النثر كان إذن يكمن في محاولة القبض بدقة على ما حدث لي، على ما رأيته، على قوله بأفضل طريقة ممكنة”. (كتاب فيليب جاكوتيه، “هذا النور الذي يجتازني”، دار خطوط وظلال الأردنية، ترجم إسكندر حبش).
وُلد جاكوتيه في مدينة مودن السويسرية سنة 1925، وتوفيّ يوم أمس عن 95 عاماً. أصدر العديد من الدواوين الشعرية خلال مسيرة إبداعية امتدت منذ مطلع ستينات القرن الماضي حتى وقتنا الحالي. من أبرز أعماله: “العتمة”، (1961)، “في ضوء الشتاء: قصائد” (1974)، “أفكار تحت الغيوم: قصائد”، “هذا القليل من الضجيج” (2008)، الصادرة عن دار «غاليمار». وقد نعته الدار على مواقع التواصل، معلنةً عن صدور كتابين لجاكوتيه الأسبوع المقبل هما: “كتاب مادريغو الأخير”، و”ضياء السيّدة العذراء”.