مناسبات

د. محمد إقبال حرب

روائي وكاتب من لبنان

مصّاصة

للمصّاصة تاريخ عريق في الوجود الإنساني يعود إلى بداية الحضارة حيث اتخذت أشكالًا بدائية تطورت مع الزمن في محاولات الأمهات لإلهاء رضيعهم وإسكاته. إلى أن وصلت إلى عصرنا بدون طعم أو سعرات حرارية، لكنها ما زالت تقوم بنفس المفعول. وفي لبنان تطورت مصّاصة الأطفال إلى مصّاصة للبالغين على مساحة الوطن.

ما ألذّ تلك المصاصة التي كنّا ننتظرها مذ كنّا نلوك الكلام. أدمنّا عليها في مراحل عمرنا لعمق مادّتها التي تتغلغل في شراييننا وترافق ضربات أفئدتنا خاصة عندما تتوزع على أرجاء الوطن بالتساوي في احتفالاتٍ تمخر عباب كل غرفة من غرف قلوبنا.

مصاصتنا غريبة، فريدة، تحمل الخرافات والأوهام وتُشلّ الضمير. مكونّات مصاصتنا الرئيسية مصنّعة خصّيصًا لوطننا المركّب من قطع منهوبة. توزَّع مجّانًا دون الاكتراث للتحذير المرافق “تمتع اليوم وإدفع غدًا”. مكونّاتها المنشّطة تحتوي على نسب مدروسة من الكذب والتدليس مع جرعة قوية من أنزيم الخيانة. كما أن محسِّنات الاستعمار اللذيذة تعمل على طمس المشاعر الوطنية، إضافة إلى ترياق الخداع البهيج.  مصّاصتنا مغلفة بشعار تجاري مميز لم يتغير منذ أن أطلقه الجنرال غورو لحساب دولة الاستعمار الفرنسية.

مصاصتنا اسمها عيد الاستقلال.

مع أننا لم نستقل يومًا، نحتفل.

مع أن استقلالنا كان بالتراضي بين المستعمر والمتنفذين من أبناء الوطن الذين حصلوا على عقد من الباطن مكّنهم من استعمار الوطن بجدارة حسدهم عليها الجلاد الأجنبي.

احتفلنا عقودًا تحت رعاية أمنّا الحنون، وانتقلنا بعدها إلى حضانة الأب المجنون. 

ثم احتفلنا تحت وصايات، ورعايات، وتوكيلات تفاجئنا كل عام بمصّاصات جديدة مطوّرة نلعقها بإدمان العبودية مهللين بصورة العلم “يحيا الوطن”.

لم يخبرنا أحد ما هو اسم الوطن الحقيقي الذي يتلوّن كحرباء حاويها من أحفاد هاروت وماروت.

ابتكر نخّاسيو الوطن المحليين مصانع جديدة للمصّاصات في معابد بنيت خصّيصًا لعبادة زعيم الطائفة. مصّاصات مقدّسة، مقروء عليها آيات بينّات تمجّد النخّاس وتجدّد عهد الاستعباد. لكن وللإنصاف، لم تعد المصّاصات بطعم واحد. فمصّاصة الشيعي غيرها عند السّني، والمسيحي يستمتع بطريقة لا يعرفها الدرزي. أما الكفرة من العلمانيين والملحدين فتوزع عليهم نسخ مقلّدة لأنهم لا يستحقّون.

إعلانات هذا العام وعلى غير العادة موحّدة بين اتحاد أمراء الطوائف. يقولون بأن مصّاصات هذا العام قادمة من السماء. ستشبع الجياع، وتشفي المرضى وتدثّر المشردين وستهزم الدولار وتقضي على كوفيد التاسع عشر اللعين.

إفرحوا معي وهلّلوا بانتظار مصّاصاتكم الجديدة. هيا بنا إلى مسرح المدينة نهلل مع المهللين “عيد استقلال مجيد” على نفس المسرح الذي استضفنا به فرنسا  منذ فترة وجيزة لنحتفل معها بلبنان الكبير. يومها شكر أصحاب مزارع نخاسة الوطن دولة فرنسا على استعدادها لترميم ما أفسده الدهر مقابل مئة سنة أخرى من العبودية… فقط لا غير.

إفرحوا وهللوا… فمصّاصاتكم هذا العام مبتكرة. لن تستلذوا بطمعها لعقًا بل جلوسًا على رأسها المدبّب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى