مناسبات

مسعود معلوف

سفير لبناني متقاعد / واشتطن

 الاستقلال …في الذاكرة

عيد بأية حال عدت يا عيد          بما مضى أم بأمر فيك تجديد

تأتي ذكرى استقلال لبنان هذه السنة، في وقت البلد فيه مغلق سعيًا إلى الحدّ من تفشّي جائحة كورونا الفتاكة،  والسياسيون لا يستطيعون الاتفاق على تشكيل حكومة بعد أشهر من التفجير الذي دمّر قسمًا هامًا من عاصمتنا الحبيبة، وفي ظروف يعاني فيها الشعب اللبناني من أزمة اقتصادية ومالية عميقة لا يرى أحد أفقًا للخروج منها.

وبما أنه لا يوجد لدينا ما نحتفل به هذه السنة، فإني سأعود بالذاكرة إلى سنين طويلة خلت، وأعيش هذه المناسبة في خيالي، كيف كنا نحتفل بالاستقلال في الماضي وما كان يعني لنا عيد الاستقلال في مراحل مختلفة من الحياة.

كان الاستقلال، أيام كنا تلامذة في المدرسة، أي في منتصف خمسينيات القرن الماضي، ما زال حديث العهد، فكان الأساتذة يشرحون لنا أهمية هذا الحدث التاريخي وظروف حصول لبنان على استقلاله والشخصيات اللبنانية التي ناضلت من أجله، وتفاصيل كثيرة كنا ندرسها بجدية للحصول على العلامات المطلوبة للنجاح في هذه المادة الدراسية.

ولأكون صادقًا، كنا كتلاميذ ننتظر الثاني والعشرين من تشرين الثاني ليس للاحتفال بهذا العيد وإظهار الإعجاب والامتنان للذين حققوا للبنان هذا الإنجاز العظيم، ولكن لأنه كان يوم عطلة نرتاح فيه من عناء الدرس، ونقضي يومنا في اللهو واللعب تاركين للكبار مهمة القيام بواجبات العيد من التباري في إلقاء الخطابات الرنانة، والإشادة بأبطال الإستقلال والتمتع بحضور العرض العسكري. وبعد العام 1959، حيث دخل التلفاز الأراضي اللبنانية، بدأنا نتابع العرض العسكري على جهاز التلفاز من داخل منازلنا.

أما عيد الاستقلال الذي لن أنساه فهو عيد سنة 1962، إذ كنت في تلك السنة في صف الفلسفة وكنا نقوم بعد ظهر كل يوم سبت من الأسبوع بالتدريب العسكري الذي كان إلزاميا في ذلك الوقت. وفي مطلع شهر تشرين الثاني من تلك السنة، أبلغنا المدرب العسكري أننا سنشارك في العرض العسكري وعلينا الحضور ليلة العيد أي في مساء الحادي والعشرين من الشهر، إلى الثكنة العسكرية في منطقة الأوزاعي التي أصبح اسمها فيما بعد ثكنة هنري شهاب، لنشارك في اليوم التالي في العرض العسكري حيث سنعرف في حينه دور كل واحد منا في هذا العرض.

التقى طلاب السنة النهائية من مدرستي (الليسيه الفرنسية) في الثكنة وكذلك طلاب من الجامعة الأميركية، فتم توزيع الملابس العسكرية على الطلاب وخصصت لنا قاعة كبيرة في الثكنة وضعت على أرضها ما يشبه الفراش المتقاربة من بعضها البعض لننام عليها.

بعد أن تناولنا وجبة العشاء تم إبلاغنا بأن وقت النوم قد حان فذهب كل منا إلى فراشه وأطفئت الأضواء بعد أن نبهنا الضابط المختص بضرورة الحفاظ على الهدوء تمكينًا للجميع من النوم إذ علينا أن نستيقظ باكرًا في صبيحة اليوم التالي.

سكت الجميع ولاذوا إلى النوم. وفي الصباح الباكر تم إيقاظنا، فلبسنا الثياب العسكرية مع الخوذات، وأعطي كل واحد منا بندقية (طبعًا دون ذخيرة) وتم إطلاعنا على دورنا في العرض العسكري، وكان دوري أن أجلس داخل شاحنة وأضع البندقية بين قدمي ولا أتحرًك لا يمينًا ولا يسارًا حتى نعبر المنصة الرسمية التي كان فيها رئيس الجمهورية وكبار الشخصيات، فنفّذت الأوامر العسكرية بحذافيرها ودون تردد أو تذمر، مسرورًا بأنني شاركت بالعرض العسكري لعيد الاستقلال في تلك السنة.

أما بعد التحاقي بوزارة الخارجية وعملي في السفارات اللبنانية في دول مختلفة من العالم، فكان الاحتفال بعيد الاستقلال مناسبة لدعوة الجالية اللبنانية وسفراء الدول الأخرى والمسؤولين في الدولة المضيفة إلى سفارتنا حيث كان الضيوف يتناولون المأكولات اللبنانية وأحيانا كانت تشارك فرق فولكلورية تقدّم للحاضرين لوحات من الفن اللبناني كما تقام معارض لرسامين وفنانين لبنانيين، وغير ذلك من الأنشطة التي تظهر جمال لبنان وثقافته وحضارته. كانت ذكرى عيد الاستقلال في الماضي غير البعيد، خارج سنوات الحرب طبعًا، مناسبة للفرح واللقاء والاحتفال واستعادة ذكريات تاريخنا الوطني الحديث، مناسبة للفخر بما حققه هذا الوطن الصغير من تقدّم وما حققته جالياته المنتشرة في العالم من نجاحات وإنجازات في المجالات السياسية والاقتصادية والطبية والعلمية والثقافية والفنية وغيرها.

أما هذه السنة، سنة 2020 المليئة بالمآسي والانتكاسات والخسائر والصعوبات، فجلّ ما نتمناه هو أن يمرّ هذا العيد بسلام ودون المزيد من المصائب، وأن يتمّ تشكيل حكومة قادرة على استعادة بعض الثقة بالوطن المنكوب،  كي نتمكن من إعادة بناء ما تدمّر من عاصمتنا الحبيبة، وتعود الحياة الطبيعية بعد أن ننتهي من جائحة كورونا، ويعود لبنان بلد السياحة والثقافة والمؤتمرات على أنواعها، ويصبح من جديد مستشفى العالم العربي وتتوقف هجرة المواطنين إلى الخارج.

في تمنياتي هذه دليل ساطع على الوضع المؤسف الذي وصلنا إليه في لبنان، إذ بدل أن نحلم بمستقبل مشرق لبلدنا نسجل فيه تمكّن لبنان مثلًا من اكتشاف دواء لمرض السرطان، أو أن نحلم بتمكّننا من إرسال إنسان إلى الفضاء الخارجي، فإن جلّ أحلامنا هذه السنة هي أن نتمكن من العودة إلى ما كنا عليه منذ سنوات وألّا تزيد أحوالنا سوءًا، وبدل أن نفرح ونتهنى بالعيد، ها أنا أستذكر الأعياد الماضية في السنين القديمة إذ لا مجال لأي احتفال أو فرحة هذه السنة.

وفي الختام، وبمناسبة ذكرى الاستقلال، أود التعبير عن أصدق وأحرّ تمنياتي بالصحة والتوفيق والسعادة إلى كل من يقرأ هذه السطور، مهما كانت ظروفنا صعبة،  ومحبتي إلى كل من ينتمي إلى وطننا الحبيب، أينما وجد على هذه الأرض الواسعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى