مناسبات

محمد التميمي

وا شوقاه يا رمضان

تزينت الدنيا، ولا تتزين الا لعظيم، تزينت لقادم يحل عليها ضيفًا كل عام، تستقبله بلهفة وأشواق السنين، سماؤها صافية، كصفحة ماء في محيط هاديء، تتخللها بعض غيمات بيضاء منبئة بنسمات لطيفة ترطب الاجواء، في ايام ربيعية ساحرة.
أخذت الارض زخرفها ولبست أحلى حليِّها، استعدادا للحدث الكبير، والناس في حركة دائمة تحضيرا لما يليق بهذا الاحتفال الرائع البهيج، الكلٌّ يعبر بالقدْرِ الذي يستطيع، والقلوب هي الميزان.

جدران العمارات كلها فوانيس ملونة، على حبل مشدود بين البنايات المتراصة، لا يُعرَف اوله من آخره، ولا يستأذن أحدهم الاخر حين يمده، بل ولا يُعْرَف أصل ولا دين صاحب المنزل الذي مرّ منه ذلك الحبل، الذي ارتفع وشُدَّ ابتهاجا بالقادم الحبيب.

الاطفال يلعبون بعد الغروب، شعروا  ان فرحة عارمة تملأ المكان، لم يعرفوا لماذا؟ ولكن سرعان ما تحركت فيهم مشاعر الطفولة البريئة، فخرجوا يلهون ويلعبون ويعبّرون عن أحاسيسهم السعيدة بهذه الاحتفالية القادمة.

الرجال منتشرون في الاسواق وعلى قارعة الطريق، الابتسامة ترتسم على محياهم بكل حب. أحدهم كان على خلاف مع جاره، لكنهما الليلة يقفان مع رجال الحارة، يتبادلان الحوار بهدوء، وكأن شيئا لم يكن. هناك جار جديد، لا يعرفه أحدا، سكن الحارة منذ يومين، يقف معهم يشاركهم النقاش والحكايات والضحكات، وكأنه يعيش بينهم منذ زمن.

الشباب، هم ايضا مستنفرون، لهم تجمّعهم بعيدا قليلا عن تجمع رجال الحارة، يضحكون بأعلى أصواتهم، ويلتفتون بحذر ان لا يكونوا قد ازعجوا الكبار بحواراتهم، لكن الكبار يغضون الطرف عنهم وعن مزاحهم مهما كان ثقيلا، فذلك يوم فيه فسحة كبيرة من الحب، وجرعة كبيرة من التسامح.

النساء يجتمعن كذلك في ساحة الحارة خلف بيوتهن، تسمع لهن اصواتا مختلطة، وضحكات مرتفعة ومناكفات لطيفة بينهن، يتفقدْن احوال بعضهن البعض خلال السنة الفائتة، ويتخلل ذلك حديث عن بعض الطبخات يتبادلن وصفاتها، تتفنن كل واحدة منهن في توصيف طريقتها في الطبخ واعداد الحلويات، ثم يتبادلن قائمة طعام تم اعدادها على شكل برنامج يومي.

الكل في مرح وفرح وسرور، تشع البهجة من أحداق عيونهم، وترتسم خطوطا تعلو وجوههم

هكذا كان استقبال رمضان في حاراتنا وأحيائنا القديمة، كانت الفرحة في كل ركن وزاوية، كان عرسا شعبيا عاما، يسع كل اهل الحارة مسلما كان ام غير مسلم، الحب فيه يخيم على الجميع، والتسامح فيه من علاماته المميزة، والرحمة صفة لازمة له بين ابناء المجتمع. يبدأ بطبق الافطار الذي يخرج من بيت ويمر على كل البيوت، يفَرَّغ مما فيه ليمتليء بما لذ وطاب من طعام جديد، الى الصدقات والعطايا التي يتفقد بها الاغنياء بانفسهم بيوت الفقراء، ليعيدوا انعاش قلوبهم بالانسانية والرحمة والاحساس بالبشر.

تتوجه وفود الناس الى بيوت الله زرافات وافرادا، فجرا وليلا، على مدى ثلاثين يوما، يجددون ايمانهم، ويرممون قلوبهم، ويعيدون حساباتهم مع الدنيا، وعلاقاتهم مع الله. أول فجر في رمضان وأول تراويح يلخصان بداية الصيام ونهايته، أوله فرحة باستقبال الشهر بما فيه من بركة وخيرات، وآخره سعادة بالغنيمة منه والفرح للنجاح في أداء واجباته.

رمضان شهر الارحام، تتواصل فيه العائلة والاصحاب والخلان، يتغافرون ويتراحمون ويعفو كل صاحب حق عمن اساء اليه، ويجتمع الجميع على مائدة واحدة كل يوم، يسهرون ويملاْون ليلهم ضجيجا الى وقت السحور، حين يعلو صوت المسحراتي ويهز صداه جوف الليل المظلم، بندائه أهل الحارة بأسمائهم ليستيقظوا من سباتهم ويتناولوا سحورهم، الذي يعينهم على الامساك عن الطعام في نهار رمضان.

في رمضان شعور خاص بالسلام الداخلي على مستوى الفرد والمجتمع، لا يحسه الا من ذاقه، وعمل بمقتضاه في قلبه وعلى جوارحه بين الناس، ليخرج بعد محطة رمضان كيوم ولدته أمه في براءة الاطفال وطهارة النفوس، وصدق المشاعر وحسن التعبير وجمال الافعال.

كنا ننتظر رمضان من العام الى العام، بالرغم من مشقة الصيام أحيانا، لأن القلوب فيه تخشع والطبائع فيه تلين، والنفوس فيه تتصالح والارواح فيه تسمو

ثم تغربنا عن بلادنا، ولم ننس رمضان، بكل فرحته، وجماله، وظلت ذكريات الماضي تلح علينا، نشتاق احيانا لها، ونحاول ان نعيش بعضا منها في بيوتنا ومساجدنا بقدر ما نستطيع، الى ان جاءت كورونا، أغلقت المساجد ومنعت الزيارات وحجرت الناس، فانتقلت مظاهر رمضان الى وسائل التواصل الاجتماعي وحُصِرتْ داخل البيوت، ومع ذلك لم تفقد دنيا رمضان زينتها، ولم تخلع أرضه زخرفها وحليها ولم تخسر سماؤه نقاءها، ولا زالت غيماته تضفي على ربيعه رطوبة تنعش القلب وتسعد النفوس

فأهلا رمضان
وأعاننا الله على أداء حقك علينا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى